السهام الحازمة للراعي أكثر ما تصيب برّي

أكثر من يبدو معنياً بسهام الموقف الحازم الذي أبلغه البطريرك الماروني بشارة الراعي الى سفراء الخماسية من رفض لصيغة الحوار السابقة لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية وحتمية التوافق المسبق هو رئيس مجلس النواب نبيه بري تحديداً، إذ كان "حزب الله" يختبئ في الماضي وراء رئيس المجلس فيما الحزب صاحب المواقف الراديكالية والأكثر صلةً بإيران، ولكن في الواقع الحالي فإنه الى جانب التلاقي وإلغاء التمايز كلياً بين فريقي الثنائي الشيعي، فإن موقف بري هو الاكثر خطراً لأنه الأكثر قابلية للقبول لدى كثر ولا سيما لدى الخارج باعتبار أنه يمكن أن يبيع هذا الأخير موقفاً فئوياً مغلفاً بمرجعية موقع رئاسة المجلس النيابي.

فبعيداً من الوضع الخطر من جانب الحرب القائمة بين الحزب وإسرائيل والانهيار الاقتصادي ومفاعيله الخطيرة، يجري تكريس أمور في منتهى الخطورة، ويمكن اعتبارها بالنسبة الى البعض أخطر ممّا كان سائداً في 2008 والذي أدى الى اتفاق الدوحة. وهذه الأمور تتمثل في الإيحاء من جانب الثنائي وأدائه في مقاربة الأمور ومن بينها الموضوع الرئاسي بمثابة القول إننا نحن وحدنا من نمسك بالسلطة والوضع في البلد يسير طبيعياً ونحن نعطل المؤسسات. وهذه مسألة بدأت القيادات المسيحية تعي خطورتها أكثر فأكثر على خلفية الغياب المسيحي الكلي على الصعيد الرسمي والدولتي وعلى قاعدة أن ما يجري راهناً هو تسيير فريق معيّن الأمور في البلد على نحو طبيعي من دون أن يظهر أنه يتأثر بالشغور الرئاسي أو يقيم له أي اعتبار. فالمناخ المسيحي العام ولا سيما العلماني والعروبي منه وليس فقط ذلك الموالي للقوى المسيحية السياسية الأبرز أي حزب الكتائب، "القوات اللبنانية" والتيار العوني، الممثلة لغالبية من الطوائف المسيحية بات أكثر تشدداً من هذه القوى إزاء المقاربات المعتمدة والاستفزازية الى حد كبير من جانب الثنائي، إذ هناك شعور متعاظم بإلغاء كلي للمكوّن المسيحي في البلد واستهانة به. وحتى اللغة التي يستخدمها الحزب تستند الى عنجهية غير مقبولة في مطالبته برئيس يطمئنه أو يحمي ظهره كما يقول في ظل تساؤلات لماذا يجب أن يطمئن الرئيس العتيد مكوّناً مذهبياً يمتلك السلاح الذي يقول إنه يقارع به إسرائيل ولا يطمئن الرئيس طائفته قبل سواها إذا كانت الأمور مطروحة من هذه الزاوية علماً بأنه يجب أن يطمئن جميع اللبنانيين لا أن يحمي ظهر فريق مذهبي يحمل السلاح. فإذا كانت الطمأنة للحزب كمكون سياسي أو مذهبي فإن الأمور يجب أن تكون موازية بالنسبة الى الآخرين على أقل تقدير.

والعنجهية أكثر أن الثنائي بامتلاكه كل الأصوات الشيعية في مجلس النواب يقول بامتلاكه حق النقض على أي اسم تطرحه القوى المسيحية أو أي قوى أخرى فيما ينكر على هذه القوى ومجموعها يتجاوز من حيث عدد النواب ما يملكه الثنائي، أن يكون لها حق النقض أيضاً كما يملكه هو في ما يتعلق بهوية رئيس الجمهورية. فالأمور كانت تسير في هذا الاتجاه من قبل ولا سيما مع الخطأ المسيحي الذي ارتكبه التيار العوني بمنحه للحزب القدرة والغطاء للتعطيل لعامين ونصف العام حتى انتخاب ميشال عون، ما شجعه على اعتماد التجربة نفسها علماً بأن الحزب وفق المثل الشعبي الذي يفيد أنه بجميل التيار العوني على هذا الصعيد أو من دونه، فبصفته وريث الوصاية السورية على لبنان يكرر تجربة وضع المسيحيين أمام ما يريده أو الفراغ الدائم كما فعل حافظ الأسد بخيار مخايل الضاهر أو الفوضى.

وما بات أكثر حدة وخطورة في كل هذا المشهد وفقاً لأكثر من رأي سياسي مسيحي أن الثنائي لم يعد يكلف نفسه بالمحافظة على الحد الأدنى من اللياقة السياسية بالسعي الى التفاهم والاختباء وراء بعض الشخصيات التي تدور في فلكهما فيما المسألة راهناً هي إما القبول بما نريده أو يبقى الوضع على حاله. ويزيد من فداحة ذلك انتظار انتهاء الحرب على غزة وتالياً في الجنوب وفق معادلة أنه إن كان الحزب مرتاحاً الى النتائج والى وضعه فإنه يفرض من يريده، وإن لم يكن مرتاحاً للنتائج فإنه يحتاج الى تعويض لقاء ذلك بتأكيد وضع اليد على رئاسة الجمهورية.

البعض يرى أن إزاحة المكوّن السنّي جانباً من خلال إضعافه وبوساطة من التيار العوني حليف الحزب الذي لعب دور رأس الحربة على هذا الصعيد في الفترة الماضية ما قبل عهد ميشال عون وخلاله على قاعدة إعادة بناء البلد بالاستناد الى ثنائية شيعية مسيحية على خلفية تفاهم مار مخايل، فإن الأمور ذهبت الى التصادم بين الثنائي الشيعي والطوائف المسيحية. وإذا كان من مؤشر يجب قراءته فهو في حجم ردود الفعل على السلاح في بيروت الذي استعرضته "الجماعة الإسلامية" سواء من باب استلهام أداء الحزب وتعميمه لكن كسلاح سنّي يؤيّده أو يلتقي معه أو من باب حاجة الحزب الى تغطية من "الإخوان المسلمين" في مقابل غياب أي تغطية أخرى لحرب المساندة لغزة. ولكن الإشكالية الأبرز في ظل هذا المشهد أن استمراريته معرّضة للمخاطر انطلاقاً من أن الدول العربية على رغم الانفتاح على إيران، فإن أحداً لن يأتي إذا أمسك الثنائي، وقد باتا حالاً واحدة بالنسبة الى غالبية القوى في الداخل، بالبلد على خلفية تقوية عضلات الحزب وإيران في هذا الموقع الاستراتيجي على البحر المتوسط. وهذا الواقع يعرفه رئيس المجلس أكثر من سواه باستمرار الانفتاح العربي والخليجي عليه وللاعتبارات المعروفة، ولكن السهام التي تطاول موقعه أصابت موقعه "الوطني" بأضرار جسيمة.