مئة وثلاث سنوات: إتّفاق ، ميثاق، وفاق أم نفاق ، فراق ... وإنشقاق؟؟!!

كتب المحامي انطوان القاصوف :

مئة وثلاث سنوات:   إتّفاق ، ميثاق، وفاق أم نفاق ، فراق ... وإنشقاق؟؟!!

  كانَ أستاذُ القانون الدّستوري- في كليّة الحقوق- الدّكتور إدمون ربّاط يَتحدّث دائِماً عن القادة الكبار، العظماء ، جاعلاً " ديغول " مثلاً ومثالاً عنهم ، ويروي :
١- وصلتُ الى فرنسا يوم الإنتخابات الرئاسيّة واستقلّيتُ سيّارة من المطارِ الى الفندق ، في الطّريق رحتُ أُحدّثُ السّائق عن يوم فرنسا الإنتخابي ، فكانَ السّائقُ يَحْتَدّ وينتقد ويَعرضُ ويُعارض ويوجّهُ سهامه الى " ديغول " ... وعندما وصلتُ الى الفندق ، سلّمني حقائبي فسألتُه بصوتٍ مُنخفض : إلى أينَ أنتَ ذاهب الآن ؟ فقال : إلى قلمِ الإقتراع ... وهُنا سألتُه بصوتٍ خافت : ومَن سَتَنتخب؟ أجابني بنبرةٍ عالية : " ليش في غيرو"؟!

٢-  في إحدى المُناسبات ، وكان " ديغول " مُنهكاً، سألَه أحدُ الزّائرين الرَسميين الأجانب : كيفَ حالُ فرنسا ؟ أجاب : إنّها ليسَت على ما يُرام ...فإنّ صحّتي تَتَدَهْوَر ...؟؟!!

       هكذا الكبار ، الشّعبُ يخافُ عليهِم وهُم يَخافُون على أوطانِهِم !
       إذا سقطَ "الرِّجالُ الرّجال " يستحيلُ أن يَبقى الوطنُ قائماً !
 وقياساً في دولةِ بلغت الثالثة بعدَ المِئة ، وُلِدَت باسم " دولة لبنان الكبير " فماذا بَقي مِنها ومِن اسمها؟ 
   " دولة لبنان الكبير " أصبحت دولة ودويلة ، تعيشُ ولا تَحيا ، المشاكلُ فيها لا تُحلّ إنّما تؤجّل ، لا نسيان فيها ولا تسامح ، الظّالمُ فيها مَظلوم ، والمَظلومُ  فيها  ظالِم ، الدّستور فيها وجهة نَظر ، الإجتهادُ فيها أقوى من النّص، التّوطين فيها مَفروض : لُجوءٌ دائِم ونًزوحٌ مُتَدفِّق ، راياتها مُتعدّدة وآياتها عديدة ، الأمّ الحنونة ، والأخت الشقيّة ، ولاية الفقيه وولاية الوليّ ، العَلنُ فيها شيء والسرّ فيها شيءٌ آخر ، اليَقَظة فيها بدون رُؤية والحلمُ فيها بدون رؤيا، باتت دولة " فيما بعد " للوصول الى " لا مكان " ؟؟!!
    مئةٌ وثلاث سنوات تَمضي ولا تَنقضي : لمْ يَعرف المُواطن الإستقرار لا السياسي ولا الأمني ولا الإقتصادي ...إلاّ لِفتراتٍ وَجيزة ، تماماً كَمَن يَعيش على "الأوكسيجين" خوفاً من الإختناق ...؟ يُروى أنّ  مَحكوماً " مُخَوْزَقاً " كانَ يَطلبُ مِن حارسِه أنْ يَنقلَه كلّ فترة من  خازوق إلى خازوق آخر ، فَسَأَلَه الحارس : وما الفرق ؟ أجابَه : بين خازوق وخازوق ترتاحُ مُؤخرتي قليلاً ؟!
 ... وهكذا في دولةٍ كانَ اسمُها " دولة لبنان الكبير" :
كُلّما زادَ عِلمك اقتربْتَ من السّجن !
   وكُلّما زادَ فهمك اقتربْتَ من القَبر !
   وكلّم زادَ عُهرك اقتربْتَ من الشُّهرة!
   وكلّما زادَ جهلك اقتربتَ من السُّلطة!
   في دولةٍ كانَ اسمُها " دولة لبنان الكبير" باتَ  رِجالًها أشباهَ الرّجال :
 " ديغولُها " يَقودُ شعبَه الى الجَحيم !
" نابوليونُها " يذهبُ به الى الخَراب !
" نيرونُها " يأخذُه الى الحريق!
" دراكولاها " يُجلسه على الخازوق !
 وشعبُها الذي كان عَظيماً ، بات ذليلاً من بَلائِهِم ، مَريضاً من وبائهم، جائِعاً من تُخمَتِهم، مُفلِساً مِن احتيالهِم، مُشرّداً من إهمالِهم ، تائِهاً من نسيانِهم ، يَركبُ قواربَ الموت بَحثاً عن وطنٍ فيه خَيمة ... فيه حياة ! فصارَ الوضعُ  عاراً يُبكينا ، ظُلماً يُعذّبُنا، حُزناً يَغتالُنا وهَمّاً يَقتُلُنا، فهل يَحقُّ لِمن تَرَكَنا في وَسَط الغابة أنْ يسألَنا، ماذا فعلَت بكُم الذّئاب؟ ومع ذلك كلّ واحدٍ من أشباه الرّجال ، يُشبه الأمبراطور الرّوماني مارك أوريل الذي أمرَ بأن يُنقش على      " الجرّة " التي ستوُضع فيها بقاياه ، هذه العبارة " إنّك تحتوين  رجلاً لم يستطعْ العالمُ أن يَحتويه ..." ؟؟!!
في دولةٍ كانَ اسمها " دولة لبنان الكبير" ، بينَ الحُكم أو التَحكّم ، بين السُّلطة أو التَسلُّط ، بينَ السطو او السَطوة ، بينَ الجُنون أو المُجون ، بين الوجود أو الزّوال ، وكلّما حاول المُواطن  العاقل الخروج من مأساته وقع في المُعادلة – الدوّامة ليتساءل :
هل أَعتَمِد طريقة  نيلسون مانديلا :" نسامح ولكنّنا لا ننسى "
أم حيرة فيرجيل جورجيو : "ترى أيّهما أفضل لتَحقيق سَكينتي : أن أغفر ولو لم أنس أم أن أنسى ولو لم أغفر" ؟؟
أم أَعيش الذكرى المُرعبة كما عاشَها أحد شُهود غضب الطبيعة وقال :" البعض يريد أن ينسى ، نحن نريد أن نتذكّر" !
أم أتبع وصيّة المسيح الذي طلبَ الغُفران لِصالبيه بِحجّة جَهلهم : " إغفر لهُم يا أبتاه لأنّهم لا يَعلمون ماذا يفعلون "!
أم أرفض الغُفران للذين تَسبّبوا بمأساتي لأنّهم كانوا يَعرفون ماذا يَفعلون ؟

      بعدَ طُولِ مُعاناة ، وفُقدانِهِ حتى لِبَصيص الأمَل ، وَصَلَ المُواطن الى الحائطِ المَسدُود : مَهما فَعلت فالمَأساةُ لا تَزول، وما دامَتْ مأساتي لا تزول، فأيّ قِيمة للمُسامحة، للغُفران ، للنِسيان ، للتَذكّر...
       ولكي لا يَسقط الوَطن ، أملٌ وحيدٌ ، أن يأتيَ قائدٌ كبيرٌ، قائدٌ مُنقذٌ  يقولُ للمُواطن الحَائِر، البائِس :
  مأساتُك سَتَزولُ بفعلِ تَنقيةِ الذّاكرة :
نُسامِح ولا نَنسى
نَتذكّر ولا نَثأر
نَحكم ولا نُعاقب
ما يُؤخذ بالحيلة لا يُستردّ الاّ بالقانون
ولكن ما يؤخذ بالقوّة لا يُستردّ الاّ بالتمرّد!
التمرّد حده يُعيد لنا " دولة لبنان الكبير" بأهدافِها ومراميها ، بِعلّةِ وُجودِها وقوّة استمراريتها،  فتقوم مِن جديد الدّولة العادلة ، وقوامُها :
تأمين وتَثبيت الحُريّة!
الحُريّة تجعل الأمن آمناً !
الأمنُ الآمن يجعل الديمقراطية فاعلة وضامنة ... وإلاّ فالنهاية مأساويّة ، لا إتّفاق ، لا ميثاق ، لا وِفاق ، بل نفاق  وفراق  وانشقاق ... وعلى روح " دولة لبنان الكبير"... الصّلاة والسّلام ؟!