الـ"كابيتال كونترول": خيرٌ ألّا يأتي أبداً من أن يأتي متأخراً

بعد ما يزيد على 35 شهراً من الأخذ والرد، يطالعنا اقتراح مجدد لقانون يرمي إلى وضع ضوابط موقتة واستثنائية على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية، والذي لم يسلّم إلى الآن ممّا أصاب سابقه من الأخذ والرد داخل المجلس النيابي وخارجه. في هذا السياق قد يكون من المفيد مقاربة الاقتراح المطروح من باب أسبابه الموجبة: «بما أن النظام الاقتصادي في لبنان حرّ ليبرالي قائم على احترام الملكية الخاصة... تكفله مقدمة الدستور اللبناني... وهو يشكل ميزة أساسية لا يمكن التفريط بها، وبما أن الظروف المالية والاقتصادية والاجتماعية التي يمرّ فيها لبنان أدّت إلى فوضى وتراجع في الثقة الداخلية والخارجية في القطاع المصرفي اللبناني انعكس بشكل سحوبات نقدية وطلبات تحويل مصرفية كبيرة... أصبح من الضروري حماية أموال المودعين وخصوصاً منهم الصغار، وتأمين التحويلات المالية الحياتية والضرورية إلى الخارج، وتأمين مصادر التمويل لها... لذلك، هناك أهمية وضع ضوابط موقتة واستثنائية على التحويلات المصرفية... وحسن إدارة ما يتوافر من العملات الصعبة بهدف التأثير إيجاباً في عملية التعافي المالي والاقتصادي، والضوابط يجب أن تكون جزءاً من خطة تعافٍ مالية واقتصادية ومصرفية متكاملة...».

من هذا المنطلق قد يكون أيضاً من المفيد وللأهمية وضع الأسباب الموجبة في نصابها. وعليه، إن لبنان لم يعانِ خلال تاريخه الحديث وعلى رغم اختلاف الأحداث الأمنية والسياسية التي خَبِرها على تفاوت تداعياتها من فقدان للثقة بالعمق والاتساع الذي هو عليه اليوم، وذلك حصراً لأنّ قطاعه الخاص كان المركز للثقة ومصدر تعزيزها، على رغم حمل ثقل القطاع العام وتكاليف هدره وفساده المتمادي. وعليه، فإنّ القطاع العام هو المسؤول الأول والأخير عن استعادة الثقة بالإدارة الجيدة والكفوءة والنزيهة، وبالأداء المحوكم جيداً بكل تفاصيله وآلياته وبشفافية وفعالية سياسات وقواعد ونظم مراقبته وتدقيقه ومحاسبته.

 

إذاً من حيث المبدأ فإنّ إعادة الثقة إلى القطاع العام بكل مفرداتها، هي في أساس تحرير القطاع الخاص من أثقال القطاع العام المالية والإدارية والهدر والفساد...

 

في المقابل، غنيّ عن القول ومن حيث المبدأ، إن هذه الثقة لا تأتي من فراغ وتتعدّى في رأيي قدرة هذا القانون على الإجابة عن موجباته بالفعالية المطلوبة، خصوصاً أن بيروقراطية آليات تنفيذه والمدد المطلوبة وتحديداً في ما يخصّ الاقتصاد الوطني من تصدير واستيراد، من شأنها أن تحدّ من النشاط الصناعي والتجاري إنتاجاً وبنتيجته مردوداً. إذ ان في العالم الذي نخبره اليوم والاختلالات الحادة في سلاسل التوريد، من شأنه أن ينعكس سلباً على العملية الاقتصادية سواء من حيث تكاليفها أو التزام الإيفاء بالموجبات التعاقدية. وكذلك غياب إعادة هيكلة للمصارف حقيقية وجدية وذات معنى، تحدد بشفافية مصير الودائع ومتى وكيف وكم سيتم وصول المودعين إلى مدّخراتهم، إذ ليس من العدل ومن غير المقبول السماح لهم بسحب ما لا يقل عن 400 دولار ومثلها بالعملة الوطنية على سعر صرف صيرفة، وفي هذا الإطار أيّ زيادة تبقى انتقائية للمصرف، وهذا مشروع يزيد التوتر الحاصل بين المصارف والمودعين لديها، وكذلك التحويل الاستثنائي إلى الخارج لزوم الدراسة والاستشفاء... من سيولة المصارف وفقاً لتعليمات المصرف المركزي بهذا الخصوص. وهذا موضوع نزاع قائم أخَلّ بمعظم، إن لم يكن بمجمل، الامتثال إلى تعاميم مصرف لبنان الصادرة في هذا الخصوص.

 

أما فيما يتعلق بإدخال ضوابط على عمليات تحويل العملات الأجنبية فهو غير كاف في رأيي لمنع الانفلات الحاصل في تدهور سعر العملة الوطنية، إذ أن هذا الأمر يلزمه في المقام الأول استعادة المصرف المركزي لدوره في إدارة السياسة النقدية بكل مكوّناتها: أسعار صرف النقد الوطني في مقابل العملات الأجنبية وأسعار الفائدة التي هي الآن إن لم تكن صفراً فهي قريبة من الصفر، وهذا أمر بالغ التعقيد في المحتوى النقدي الحالي لأنّ أسعار الفائدة هي من الدعائم الأساسية في إدارة السياسة النقدية، وفقاً لاستراتيجية واضحة تدعمها موارد نقدية مجدية، وسيطرة إن لم يكن بداية القضاء على فوضى الأسواق السوداء المنظمة القائمة في كل النشاطات الاقتصادية وأهمها العملات.

 

وفي هذا المجال، يهدف القانون إلى الحفاظ على ما تبقى من احتياط عملات في المصرف المركزي، الاحتياط المتوافر والمعلن فيه يتراوح بين الـ 9 مليارات دولار والـ 10 مليارات، وهذا على حدّ علمنا يعود حصراً إلى الاحتياط الإلزامي على الودائع، في وقت يهدف القانون إلى حماية حقوق المودعين ولا سيما منهم الصغار، مع العلم أنّ تصنيف المودعين ليس بين مودع صغير وكبير بل بين وديعة شرعية وغير شرعية. فمن أين ستُموّل المحافظة على ما تبقى من احتياط في العملات، إذا كان من هذا الاحتياط الإلزامي فهو أصلاً من أموال المودعين ويجب أن تُعاد إليهم.

 

أما بالنسبة الى ما يتعلق بالتحويلات المُستثناة بالقانون، الذي عهد بإدارتها إلى مجلس مصرف لبنان المركزي، كما عهد بتطبيق القانون إلى لجنة الرقابة على المصارف، وإنشاء محكمة خاصة بإشراف مجلس شورى الدولة. وهذا أمر ينذر ببيروقراطية تهدد جدياً تحقيق أهدافه المرجوة.

 

يأتي مشروع هذا القانون كما ذكرنا منذ البداية متأخراً إلى الآن 35 شهراً في ظل أوضاع اقتصاد منهار ومستمر في الانهيار واقتصاد ميكرو مثقل ومتعب، كل منهما بقدر حاجته يلزمه وعلى قياسه إعادة ولادة وإعادة تموضع على ثلاثة أعمدة متلازمة:

 

التحوّل الرقمي، مراجعة سلاسل التوريد، وبناء قدراته التنافسية والاستدامة. وهذا دونه خطة تعافٍ وإصلاح حقيقية كاملة وشاملة جدية قابلة للتنفيذ، ومجزية وفاعلة استراتيجياً وفعّالة عملياً، وقادرة على دعم ما تبقى من مرتكزات قطاعات القطاع الخاص المنتجة والبناء عليها لرفد الخطة المرجوّة لمحركات النمو والتنمية، وعلى هذا كله وللأهمية المفصلية أن يتلازم مع مناخ أعمال مستقر ومُستدام على كل المستويات ومُنسجم بالقدر الكافي مع ذاته، ومتوافق مع محيطه العربي وأصدقائه وشركائه الاقتصاديين والماليين في المنطقة والعالم، وفي ظل دولة كاملة السيادة في الداخل وعلى مواردها وتسعى بجدية وأولوية إلى تحقيق حقوقها في مواردها الطبيعية غير منقوصة جنوباً وشمالاً وغرباً، واستثمارها لِما فيه المصلحة العليا للبلد وأهله في حاضرهم وغدهم ومستقبل أجيالهم.

 

إنّي أعي تماماً أن مَن فسد وأفسد ومَن هدم لا يبني ومَن استباح لا يبيح. كما إنّي أعي تماماً أن تجربتنا في الخطط التي تم اعتمادها في السابق لإعادة التوازن إلى المالية العامة بقيت حبراً على ورق وكذلك الخطط بعد 2019، والتي على رغم ما أُنفق عليها من الجهد والوقت والمال والخبرات والصراعات سقطت أصلاً وتعديلاً. إن خطة الحكومة الحالية قدمت وسحبت وعدّلت والحبل على الجرار وتكاليف عدم الفعالية وعدم الإنتاجية واللاعملانية تتكاثر باليوم، وتراكم تكاليف على تكاليف.

 

المأزق ليس في اجتراح الخطط الناجحة إذا توافرت المعرفة والخبرة الموضوعية والملتزمة، بل هو في الرغبة الحقيقية والإرادة على الإصلاح، ولأسباب كثيرة أكثرها إفصاحاً كون الإصلاح عدو النفوذ أي غلبة ثقافة النفوذ في العموم على ثقافة الإصلاح والمواطنة. مع ذلك أرى أنّ البراغماتية الاستراتيجية، كلّ وفقاً لمفهومه وتعريفه لهذا التعبير ورؤيته الخاصة، يَعي تماماً أنه لم يعد في البلد مصلحة خاصة ومُحاصصة وانّ انهيار وتلاشي المصلحة العامة يُحتّمان الإصلاح.

 

وهناك دعاة حقيقيون للإصلاح داخل السلطة وخارجها، والمطلوب ممن هم داخل المنظومة وتحديداً مجلس النواب ولجانه أن يكون فعلهم الإصلاحي استباقياً لا ردات فعل، سواء من حيث ملاحقة السلطة التنفيذية لإبرام القوانين وحوكمتها أو المبادرة إلى اجتراح القوانين الإصلاحية.

 

ونأمل أنّ الأحداث الجيوسياسية الحاصلة الآن في العالم وإعادة الهيكلة البنيوية للأمن الغذائي وأمن الطاقة والأمن الاقتصادي والمالي الخدماتي الذاتي والتشاركي، والتي قدمت الاهتمام بالاستفادة من الطاقة في شرق المتوسط، سوف تلفح بلدنا بنسمات إيجابية عوضاً من رياح المنطقة الجيوسياسية السلبية العاتية التي هبّت عليها ولا تزال.

 

في الخلاصة، وبناء على ما سبق وأوردناه بالنسبة الى ما يتعلق بأسباب القانون الموجبة وبيروقراطية آلية تنفيذها وفي غياب الخطة المرجوة التي أوردنا بعض فصولها، والمستوى المحدود للنشاط الاقتصادي والمالي والمصرفي، أرى أنّ كلفة تنفيذه المباشرة وغير المباشرة قد تفوق فائدته بما فيه عدم إمكانية تحقيق أسبابه الموجبة.

 

إنّ مَن نادى بالإصلاح في لبنان في الداخل ومن الخارج منذ مؤتمرات باريس 1 و2 و3 و»سيدر»، والآن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد أحبط تاريخياً وحاضراً من الأداء المتردّد وغير الملتزم في لبنان، وكما ذكرت سابقاً عدم وجود الرغبة وانعدام الإرادة، وتجلّت ذروة الإحباط والغضب في التقرير الأخير للبنك الدولي الخالي من اللياقات من دون أي اعتبار، فإنّ التقرير لم يطل لبنان فقط بل أضرّ بالبنك الدولي، كون لبنان لجأ إليه عند الحاجة ولم يصغِ لدعوات البنك المتكررة للإصلاح. المطلوب التركيز على الإصلاح الحقيقي والناجع بكل أدواته وحيثياته الإنتاجية والعملية.

 

إذاً، مهما بلغت حصافة القوانين وصوابيتها، فهي لن تحقق أهدافها إذا كان هناك خلل أساسي في سلسلة التنفيذ، بما فيه لزوم التأهيل والتدريب المهني للموارد البشرية المعنية في القطاع العام، لا بل أخشى أن يزيد مشروع القانون من نشاط وفاعلية الاقتصاد النقدي الموازي والذي يضطلع به عاملون اقتصاديون economic operaters فاعلون وفي مختلف النشاطات الاقتصادية وبأحجام مؤثرة تتغذى من الاقتصاد العادي.

 

في المحصّلة يصحّ في رأيي القول في مشروع الكابيتال كونترول:

خيرٌ ألّا يأتي أبداً من أن يأتي متأخراً