القضاء يتوغل بكهوف الفساد في العقاريات والنافعة: العبرة بالخواتيم

كان بإمكان اللبنانيين تجنب توقف معاملاتهم في الدوائر العقارية، كما هو حاصل اليوم، بعد إقفال مكاتب بعبدا والمتن الشمالي وتوقيف جميع الموظفين فيها بتهم الفساد، فيما لو تم تطبيق برنامج التعاون التقني FEXTE الخاص بمشروع التوأمة الفرنسي- اللبناني للشؤون العقارية، الذي وقع في العام 2018. وكانت الدولة اللبنانية تجنبت السطو على المال العام، ورفعت إيراداتها وجباياتها، وحسنت جودة الخدمة المقدمة للمواطن، فيما لو طُبق ذاك المشروع. فالهدف من المشروع المذكور كان مكننة المعاملات وربط كتّاب العدل مع مديرية الشؤون العقارية والمالية، بما يتعلق بتسجيل العقود في السجل العقاري. أي أن لبنان كان سيصبح بلداً متقدماً بهذا الشأن مثل فرنسا، التي أرسلت كتّاب عدل لتطوير آلية تسجيل العقارات والحكومة ومكننة الإدارة. 

لم ينفذ هذا المشروع الواعد، الذي رصد له هبة بنحو مليون ونصف المليون يورو، وجُمِّد لصالح إبقاء الوضع الرديء القائم. فقد كان بإمكان المشروع ضرب سلسلة الفساد القائمة منذ لحظة صياغة عقود البيع لدى كتاب العدل مروراً بالدوائر المالية ووصولاً إلى العقارية. وأوقف المشروع لأن لا رغبة عند المسؤولين في إقفال باب التنفيعات والفساد ووقف مزاريب هدر المال العام، والأهم بقاء الجهاز البيروقراطي جاثماً بكل ثقله وفساده على صدور اللبنانيين، كما تقول مصادر مطلعة في وزارة المالية.

إخبارات في كل عقاريات لبنان
وفي جديد ملف الفساد العقاري، وبعد سلسلة التوقيفات التي حصلت في بعبدا (ثلاثة أقلام هي بعبدا وعاليه والشوف) والمتن الشمالي (الزلقا)، يبدو أن تدخلات حصلت لعدم الغوص في عقارية جونية، الذي فتح مؤخراً. فقد أُوقف موظفان وتم الاستماع إلى آخرين، وذلك في انتظار حصول تطورات جديدة. لكن بالموازاة، تم تقديم إخبارات ضد موظفين ومعقبي معاملات في الدوائر العقارية، في صيدا والنبطية والبقاع والشمال وبيروت، ويفترض أن يتحرك القضاء فيها قريباً. وثمة شكوك حول هذه الإخبارات من أن يكون هدفها فتح ملفات على قاعدة "ستة وستة مكرر"، لإحداث بلبلة والتشويش على المسار القضائي الجدي، الذي فتح في مؤخراً، بغية أن تنتهي القضية بتوقيفات لأشهر عدة وحسب، وتوجيه اتهامات طفيفة بتلقي الإكراميات، كما تقول مصادر "المدن".       

وفيما لا تزال الدوائر العقارية مقفلة أمام المواطنين بعد سلسلة التوقيفات، وما زال المسار القانوني في بدايته لإصدار الأحكام بحق المتورطين، أحال قاضي التحقيق في جبل لبنان نقولا منصور ملف 22 موظفاً وخمسة سماسرة أوقفوا في الزلقا إلى القاضي التحقيق زياد دغيدي الأسبوع الفائت، لتسريع الإجراءات القانونية، نظراً لتكدس الملفات على مكتبه. لكن دغيدي تنحى عن الملف، بما يبدو أن بعض القضاة لا يريدون الغوص في هذا الملف الضخم للدوائر العقارية. ثم عاد منصور وأحال ملف الزلقا إلى القاضي حنا البريدي، الذي طلب إخلاء سبيل غالبية الموظفين، منذ يومين، كما أكدت مصادر مطلعة لـ"المدن".

رد إخلاء السبيل
وتضيف المصادر أنه بخلاف القاضي منصور، الذي صدّر مذكرات توقيف في ملف النافعة، قبل بدء مرحلة طلب إخلاء سبيل بعض صغار الموظفين، طلب البريدي إخلاء السبيل لغالبية الموقوفين في ملف الزلقا، قبل إصدار مذكرات التوقيف. لكن النيابة العامة الاستئنافية في بعبدا أحالت قرار البريدي إلى الهيئة الاتهامية، لاستئناف القرار. والأخيرة إما تصادق على قراره أو ترد طلب إخلاء السبيل، الأسبوع المقبل. وتستبعد المصادر إخلاء سبيل الموظفين الكبار في هذا الملف، نظراً للأدلة الدامغة التي تثبت تورطهم في تلقي الرشى وتبييض الأموال، والإثراء غير المشروع.
أما بما يتعلق بملفات باقي الموقوفين في ملفات عقارية بعبدا، فما زالت قيد التحقيق لدى القاضي منصور، ولم يعرف بعد متى ستحال إلى النيابة العامة لإجراء مطالعة الأساس فيها بعد، كما أكدت المصادر. وأشارت إلى أنه من المتوقع أن يتم إخلاء سبيل الموظفين الصغار بكفالات مالية مرتفعة، كما حصل في ملف أو ملفات النافعة الكثيرة، التي باتت في خواتيمها، في انتظار صدور القرار الظني.

القرار الظني بملفات النافعة
وتؤكد المصادر أن المسار القانوني لملف العقاريات ما زال طويلاً، وسيسلك المسار عينه لملف النافعة الذي فتح منذ قرابة خمسة أشهر وما زال الموظفون الكبار فيه قيد التوقيف، أي مدير عام هيئة إدارة السير والآليات والمركبات هدى سلوم، ورئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبد الغفور، ورئيس دائرة إدارة السير في الأوزاعي باسم عياد. هذا إضافة إلى موظفين أقل رتبة منهم، يفترض أن يصدر القاضي منصور القرار الظني بحقهم الأسبوع المقبل.
وتضيف المصادر أنه سبق وأخلى القاضي منصور سبيل غالبية الموقوفين في ملف النافعة بكفالات مالية مرتفعة جداً، فاقت الخمسمئة مليون ليرة، وأبقي على نحو عشرين موظفاً، من أصل نحو مئة موقوف في هذا الملف. وأحيلت ملفات هؤلاء الموقوفين إلى النيابة العامة لإجراء مطالعة الأساس. وقد أنهت منذ أيام القاضية نازك الخطيب مطالعة الأساس وأحالت الملف مجدداً إلى القاضي منصور، الذي سيبدأ قريباً في إصدار القرار الظني، ويحالوا بعدها إلى قوس المحكمة أو إلى الهيئة الاتهامية، التي بإمكانها إخلاء سبيلهم.

ووفق المصادر، رغم تغيير الموقوفين الكبار في ملفات النافعة أقوالهم، ونفي ما سبق واعترفوا فيه خلال التحقيقات، إلا أن الأدلة الدامغة بحقهم تشير إلى عدم اتخاذ أي قرار إخلاء سبيل كما يشاع.

وتضيف المصادر أنه بخلاف ما كان يحصل سابقاً في مثل هذه القضايا، عندما كان يدان الموظفون الصغار ويخلى سبيل المتورطين الكبار، بعد التدخلات السياسية، فما حصل في ملف النافعة، وما هو حاصل حالياً في ملفات العقاريات، مختلف تماماً.. فقد أخلي سبيل الموظفين الصغار، من الذين يعتبر حجم تورطهم في الفساد وتلقي الرشاوى عادياً في لبنان، وأبقي على الموظفين الكبار في السجن. لكن العبرة دائماً في الخواتيم، أي ألّا تنتهي القضية بتوقيفات لبضعة أشهر، تكون بمثابة "فرك أذنين"، ويعود الوضع كما كان عليه سابقاً.