المصارف تستكمل تمرّدها والليرة تدفع الثمن

 
يوم أمس الخميس، كانت أقل من 10 ساعات كافية لترتفع قيمة الدولار في السوق الموازية من حدود 80 ألف ليرة للدولار صباحًا، لتلامس حدود 90 ألف ليرة للدولار في ساعات بعد الظهر. وبذلك، عادت الليرة إلى مستويات ما قبل بيان مصرف لبنان، الصادر في بداية الشهر الحالي، أي قبل 10 أيّام، والذي أعلن فيه المصرف فتح الباب أمام بيع الدولارات بسعر منصّة صيرفة في فروع المصارف. وهكذا، انتهى مفعول البيان كحبّة المهدّئ المؤقتّة على وجه السرعة، وذهب ما ضخّه مصرف لبنان من دولارات خلال الأيّام الماضية سدى.

لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليفهم ما جرى يوم أمس. في أولى ساعات اليوم، بدأت الأخبار تتسرّب من جمعيّة المصارف، والتي أكّدت أن الجمعيّة تتجه نحو العودة إلى إضرابها ابتداءً من يوم الثلاثاء. القرار بحد ذاته، كان يعني أنّ عمليّة بيع دولارات المنصّة عبر الفروع ستتوقّف خلال الأسبوع المقبل، وهو ما أشعل مضاربات السوق الموازية وضغط على سعر صرف الليرة. ثم سرعان ما بدأت المصارف نفسها بوقف قبول إيداع الأموال بالليرة، المخصصة لطلب شراء دولارات المنصّة، لمعرفتها بعدم إمكانيّة تحويل الأموال للدولار بعد الإقفال في الأيّام المقبلة، وهو ما عنى وقف الإجراءات التي أعلن عنها مصرف لبنان في بداية آذار منذ يوم أمس.

"فخ المنصّة" وخسائر عملاء المصارف
عمليّة بيع دولارات المنصّة عبر الفروع المصرفيّة تجري كالتالي: يودع العميل الأموال بالليرة في حسابه المصرفي، ثم يوقّع طلب تحويلها إلى الدولار بسعر المنصّة، على أن يتم التحويل (أي عمليّة القطع) لاحقًا بعد الحصول على الدولارات النقديّة من مصرف لبنان.

وفي نص كتاب طلب التحويل نفسه، يبرئ العميل ذمّة المصرف من أي مطلب أو مسؤوليّة قانونيّة يمكن أن تنشأ في حال عدم تحويل الليرات إلى دولارات نقديّة لاحقًا، في حال عدم موافقة مصرف لبنان على الطلب. وهو ما سيعني خسارة الليرات المودعة لقيمتها بفعل تدهور سعر صرف الليرة. وعمليًّا، هذا تحديدًا ما جرى في أواخر العام الماضي، حين أودع عملاء المصارف كميّات ضخمة من السيولة بالليرة في حساباتهم، لشراء دولارات المنصّة، من دون أن تجري عمليّة القطع لاحقًا، ما أنتج خسائر كبيرة لحقت بهذه الفئة من عملاء المصارف.

تشير عدّة مصادر مصرفيّة اليوم إلى أنّ الغالبيّة الساحقة من الأموال التي تم إيداعها بالليرة منذ بداية شهر آذار، بهدف شراء دولارات المنصّة، مازالت في الحسابات المصرفيّة حتّى اللحظة، أي أنّه لم تُحوّل إلى الدولار نتيجة تأخّر معاملات المنصّة مع مصرف لبنان.

ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن يتكبّد معظم أصحاب هذه الأموال خسائر كبيرة في قيمة أموالهم، بمجرّد إقفال المصارف خلال الأسبوع المقبل، وتوقّف معاملات المنصّة داخل الفروع المصرفيّة. وهذا ما سيعيد تكرار "فخ المنصّة" الذي حصل في أواخر كانون الأوّل الماضي، وما نتج عنه من خسائر لحقت بأصحاب معاملات المنصّة.

أمّا الإشكاليّة الأهم، فهي أنّ تكرار "فخ المنصّة" سيوجّه ضربة جديدة وموجعة لمصداقيّة تعاميم المصرف المركزي، ولأثر هذه التعاميم على تداولات السوق الموازية. فحصول هذا الفخ مرّة ثانية، سيحول في المستقبل دون تفاعل عملاء المصارف مع هذه التعاميم، كما سيعطي رسالة واضحة إلى المضاربين في السوق الموازية، مفادها أن قرارات المركزي لم تعد تأثّر فعلًا في توازنات العرض والطلب في السوق.

خسائر مصرف لبنان والليرة
الخاسر الآخر بعد إعلان قرار العودة إلى الإضراب هو مصرف لبنان، بعد كل ما تكبّده من كلفة باهظة لضبط سعر الصرف في السوق الموازية. فخلال الأيّام العشرة الماضية، بلغ إجمالي عمليّات منصّة صيرفة حدود 300 مليون دولار، بعدما توسّع مصرف لبنان في تأمين الدولارات بسعر المنصّة لتنفيذ مضمون بيانه الصادر في بداية الشهر. وكما هو الحال دائمًا، موّل مصرف لبنان جزء من هذه العمليّات من احتياطاته، فيما قام بشراء القيمة المتبقية من السوق الموازية مباشرة. وفي الحالتين، كانت كلفة هذه الدولارات "المدعومة" تحط في النهاية في ميزانيّة مصرف لبنان.

اليوم، وكما بات واضحًا، عاد الدولار ليحلّق عند مستويات ما قبل بيانه في بداية الشهر، ما يعني أن ما أنفقه مصرف لبنان من دولارات لضبط سعر الصرف، منذ إصدار البيان، ذهب مع الريح. وابتداءً من لحظة صدور البيان، كبّلت المصارف يد المصرف المركزي نفسه، بعد توقّف تلقي طلبات شراء الدولار عبر منصّة صيرفة. وهذا تحديدًا ما أدّى إلى جنون سعر الصرف الذي شهدته السوق الموازية يوم أمس.

أمّا الأثر الأكثر أهميّة، فسيكون على قيمة الليرة في السوق الموازية ابتداءً من مطلع الأسبوع المقبل، بمجرّد توقّف عمليات المنصّة عبر الفروع المصرفيّة كليًّا، باستثناء العمليّات القليلة التي يمكن إتمامها عبر ماكينات الصرف الآلي. ثم من المتوقّع أن يُضاف إلى هذا العامل الضاغط أثر توقّف تلقي الأموال الطازجة عبر الفروع المصرفيّة، والتي كانت تتأتّى عادةً من التحويلات الواردة إلى المصارف.

مع الإشارة إلى أنّ المصارف عمدت خلال مرحلة الإضراب السابق إلى تقنين عمليّات تعبئة ماكينات الصرّف الآلي، ما قلّص من إمكانيّة سحب الدولارات الطازجة عبر هذه الماكينات، والتي يحد منها أساسًا سقوف السحب المنخفضة المفروضة على البطاقات المصرفيّة.

عودة إلى الحصار المالي
باختصار، عادت المصارف إلى الحصار المالي الذي بدأته خلال الشهر الماضي. وكما هو واضح من تسريبات يوم أمس، فاز –وبقوّة- جناح الصقور داخل الجمعيّة، الداعي إلى تصعيد الضغط المالي على الدولة اللبنانيّة، للدفع باتجاه إنهاء جميع أشكال التعقبات القضائيّة بحق المصارف أولًا، ومن ثم تحميل المجلس النيابي مسؤوليّة إقرار قانون الكابيتال كونترول الكفيل بتأمين الغطاء التشريعي في وجه الدعاوى.

وهذا تحديدًا ما يدفع المطلعين على نقاشات الجمعيّة الداخليّة ترجيح ذهاب جمعية المصارف باتجاه خطوات تصعيديّة إضافيّة، تتجاوز حدود إقفال الفروع المصرفية وحسب. وبصورة أوضح: قد تصل الجمعيّة هذا الشهر إلى حدود وقف الأعمال المرتبطة بتعبئة ماكينات الصرف الآلي، ما سيضاعف الآثار المترتبة على هذا الإضراب. أمّا السؤال الأهم، فسيكون عن مدى تجاوب جميع المصارف مع هذه الخطوات التصعيديّة، وخصوصًا المصارف التي حرصت طوال الأشهر الماضية على "التهدئة" وعدم الإفراط في استعمال أوراق الضغط.