لبنان أمام موازنة لا علاقة لها بالواقع أملاً في حلٍ بلا إصلاحات

 السلطات اللبنانية التي لم تجد سبيلا حتى الآن لحماية المودعين، وجدت سبيلا لكي تحمي المصارف من المودعين!

المصارف اللبنانية عادت إلى العمل بحماية أمنية مكثفة، وتقليص منافذ العلاقة المباشرة مع العملاء، إلا أن ذلك يؤكد أن الأزمة باقية، وحلولها ما تزال بعيدة حتى على الأفق المنظور. وباستثناء الحلول الافتراضية، القائمة على أرقام وهمية، لم تقدم حكومة نجيب ميقاتي عروضا جادة للإصلاح.

الخطط الرامية إلى إصلاح المالية العامة، لم تقر بعد. وحتى لو تم إقرار موازنة العام 2022، فإن عجز الموازنة المرتقب “يبلغ نحو 13500 مليار ليرة أي ما يوازي 36 في المئة من مجمل الإنفاق”، حسب وزير المال يوسف الخليل. وهو ما يعني أن “الدولة” تسحب على المكشوف، من دون أن تتوفر لها الموارد الكافية، ومن دون أن يتمكن المصرف المركزي من تغطية احتياجاتها من موجوداته الشحيحة.

ويقول مراقبون إن حكومة ميقاتي تتستر وراء “أزمة الفراغ الرئاسي” و”أزمة التشكيل الحكومي”، لكي لا تنكشف أزمة الموازنة سواء بإقرارها أو عدم إقرارها، لاسيما وأنها انطوت على مصادر خلل جسيمة. منها ما يتصل بتضخيم الإيرادات، ومنها ما يتصل بأسعار صرف الدولار، ومنها ما يتصل بالإصلاحات الضريبية. وكل هذه العناصر مترابطة مع بعضها البعض، بحيث يؤدي تصويب أحدها إلى انهيار الآخر، وبالتالي الموازنة ككل.

وبحسب وزير المال، فإن “خطة التعافي” التي أقرتها الحكومة في مايو الماضي ركزت على توحيد الصرف، وتبني إجراءات إصلاحية ضريبية، لتعزيز الإيرادات، وتصحيح الرواتب.

إلا أن الموازنة التي تم تقديمها إلى المجلس النيابي لم تلحظ هذه العناصر بما يكفي لتسديد العجز أو خدمة ذوي الدخل المحدود، وبقيت أسعار الصرف متفاوتة، ولا تتناسب مع الواقع.

وشكلت حقوق المودعين الجانب الرئيسي من السجالات داخل المجلس النيابي لإقرار الموازنة.

ويرى المراقبون أن الضمانات المطلوبة للمودعين لن تتوفر بالمزيد من الإجراءات الأمنية حول المصارف، وإنما بعمل داخلي يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والاعتراف بالخسائر، سواء من جانب مصرف لبنان أو المصارف الخاصة الأخرى. وأنه بناء على تحديد الخسائر وكيفية تقاسمها بين الحكومة والمصارف، يتقرر ما إذا كان المودعون الصغار سوف يتمكنون من استرداد، أو المحافظة، على عائداتهم بضمانات قانونية، وليس بإجراءات أمنية تحمي المصارف التي استهلكت الأموال أو أقرضتها للحكومة أو قامت بتهريبها إلى الخارج.

وما لم يكن هناك نظام موثوق للنقد والصرف، يرتكز على توحيد أسعار الصرف المتعددة مقترنا بقيود رسمية على حركة رأس المال، لكي لا يتواصل الاستنزاف والتهريب، فإن شيئا لن يمكنه توفير أي ضمانات تحول دون ضياع حقوق المودعين.

ويقول المراقبون إن إقرار الموازنة، هو الشرط الأقل أهمية بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، أولا لأنها موازنة سنة مالية تكاد تنقضي. وثانيا، لأن اختلالاتها الرقمية في تقييم حجم الإيرادات، تجعل منها موازنة “دفترية” أو شكلية. وثالثا، لأنها لم تحدد مجالات الإصلاح المطلوب تنفيذها على مستوى إعادة هيكلة القطاع العام الذي يستنزف بمفرده الجزء الأكبر من تلك الإيرادات. ولئن تم التوصل إلى إقرار رفع الرواتب، بثلاثة أضعاف معدلها السابق، فإن هذا الرفع لا يعوض إلا جزءا بسيطا من انهيار أسعار صرف الليرة، التي فقدت حوالي 90 في المئة من قيمتها، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تكاد تصل إلى عشرة أضعاف مقارنة بأسعار مايو 2019.

وعدا عن توحيد سعر الصرف فإن صندوق النقد يطالب بإعادة هيكلة المصارف اللبنانية، والتدقيق في حسابات مصرف لبنان و14 مصرفا رئيسيا آخر.

ويقول الصندوق “إن المعالجة المباشرة للمشكلة الجوهرية تتعلق بضعف الحوكمة، وأن الإصلاحات الداعمة للشفافية يجب أن تتمحور حول مكافحة الفساد وتحسين أداء مؤسسات الدولة، ولاسيما في قطاع الطاقة. وأن تشمل عمليات تدقيق لحسابات مصرف لبنان والشركة المعنية بتقديم إمدادات الكهرباء”.

كما يطلب الصندوق “تنفيذ إستراتيجية للمالية العامة تجمع بين إعادة الهيكلة العميقة للدين وإجراء إصلاحات تعيد المصداقية، وتحقق الوضوح الكافي للتنبؤ بالمسار، وتكفل شفافية إطار المالية العامة، مع توسيع شبكة الأمان الاجتماعي الضرورية لحماية الفئات الأشد ضعفا”.

الصندوق سبق وأن أقر، في مطلع أغسطس الماضي، منح لبنان 860 مليون دولار من “حقوق السحب الخاصة”، وساهمت تحويلات اللبنانيين من الخارج في توفير غطاء سمح للمصرف المركزي بتغطية السحوبات اليومية مما وفر على الدولة انفجارا اجتماعيا شاملا. إلا أن ذلك لم يكن يعني إلا بقاء الأزمة تراوح مكانها.

وتشكل سيطرة القوى السياسية على بعض المصارف حائلا دون تنفيذ إعادة الهيكلة، لأنها سوف تعني الإقرار بخسارتها لأموالها المودعة في هذه المصارف. كما أن التدقيق في حسابات هذه المصارف يمكن أن يكشف حجم أعمال الفساد فيها.

وفي ظل هذه البيئة، يقول المراقبون إنه حتى ولو حصل لبنان على المليارات الثلاثة الموعودة من جانب الصندوق فإنها لن تغير في واقع الحال شيئا.

وبينما يريد الصندوق أن يجعل من حزمته الأولى أساسا لبناء أوضاع مالية جديدة، فإن بعض الأطراف اللبنانية تنظر إلى الحزمة، على أنها متنفس يمنحها المزيد من الوقت، قبل أن تعود لتخوض في الممارسات نفسها التي أدت إلى انهيار المالية العامة، حيث عجز المصرف المركزي عن توفير المزيد من التمويلات لتغطية الاحتياجات الأساسية، بينما ظلت البلاد تواصل انكماشا أطاح بأكثر من 30 في المئة من إجمالي الدخل.

 الوزير الخليل دافع عن إقرار الموازنة بالقول إن الهدف الأساسي منها هو “تقليص مستويات العجز واحتواء الحاجات التمويليّة وتخفيض نسب الدين العام وإعادة إرساء أسس العمل المؤسّساتي وسلامة الماليّة العامة وضمانتهما”، على أن يساهم ذلك “في تعزيز ثقة المواطن والمجتمع الدولي في عزيمة الدولة بالبدء بالإصلاحات المرجوة والنهوض بالاقتصاد بهدف الشروع في الخروج من الأزمة”.

إلا أن أرقام الموازنة لا تدعم هذه الافتراضات. وحيث أنها مجرد “موازنة دفترية” لإغلاق حسابات عام يوشك على نهايته، كيفما اتفق، فإن خطط إعداد موازنة العام 2023، التي تم البدء فيها فعلا، توحي في ظل بقاء الوضع الراهن، بأنها ستكون موازنة أخرى تقوم على افتراضات لا تتوافق مع الواقع.

ويقول مراقبون إن إقرار موازنة من هذا النوع، والأمل في أن تشكل مدخلا لحل الأزمة من دون إصلاحات، يشير إلى أن بيئة السياسة اللبنانية، بما فيها بيئة حكومة ميقاتي، تعيش في عالم آخر.