ملف سلامة: سيناريوهات ما بعد الادعاء

ليس تفصيلًا، في الحياة القضائيّة اللبنانيّة، أن يصبح رياض سلامة مدّعى عليه. من حيث الشكل فقط، تمثّل الفكرة بحد ذاتها انتصارًا لمبدأ المحاسبة، في ملف يرتبط بأحد كبار النظام المالي اللبناني، ومهندس توزيع رُيوع هذا النظام على مدى ثلاثة عقود من زمن.

خطوة طال انتظارها
هذا الادعاء هو الخطوة الطبيعيّة التي طال انتظارها منذ أكثر من ثمانية أشهر، بعدما طلب، في شهر حزيران الماضي، النائب العام التمييزي غسّان عويدات تحريك دعوى الحق العام بحق سلامة، قبل أن يتم تعطيل هذا المسار بفعل دعوى مخاصمة الدولة التي تقدّم بها الحاكم، ومماطلة النائب العام الاستثنافي في بيروت زياد أبي حيدر.

والادعاء، هو ثمرة سنة ونصف من التحقيقات التي قام بها المحامي العام في النيابة العامّة التمييزيّة جان طنّوس، بالتنسيق مع النيابات العامّة الأوروبيّة، بين أواخر العام 2020 وحزيران 2022. وهو نتيجة ضعط التحقيقات الأوروبيّة التي دفعت عويدات إلى طلب الادعاء على سلامة منذ ثمانية أشهر، بناءً على تحقيقات طنّوس.

وهو أيضًا، ثمرة زيارة الوفود القضائيّة الأوروبيّة الأخيرة، التي أفضت إلى سحب الملف من زياد أبي حيدر، المتهرّب من تقديم الادعاء بحسب طلب عويدات أولًا، والمكفوفة يده بفعل دعوى مخاصمة الدولة ثانيًا، وهو ما سمح بتكليف القاضي رجا حاموش باستلام الملف وتقديم الادعاء أخيرًا.

ادعاء بناءً على ثلاث شبهات
طلب الادعاء بحد ذاته، سمح أخيرًا بكشف الشبهات التي توسّع التحقيق القضائي في جمع المعطيات حولها، والتي تبيّن اليوم أنّها لم تنحصر بقضيّة شركة فوري. وتشير المصادر المتابعة للادعاء إلى أنّ جميع معطيات التحقيق، التي تضمّنها عشرات آلاف الصفحات، تتركّز على ثلاث محاور رئيسيّة:

- ملفّات التزوير، المرتبطة بالتلاعب بقيود وميزانيّات المصرف المركزي، بهدف إخفاء كتلة من الخسائر التي يتجاوز حجمها الـ 15 مليار دولار أميركي. مع الإشارة إلى أنّ التحقيق في هذا الجانب من الشبهات ارتكز على عمليّات تدقيق مفصّلة لبعض العمليّات الماليّة التي جرى قيدها في حسابات المصرف المركزي، والتي استندت إلى بدع محاسبيّة خاصّة اعتمدها حاكم مصرف لبنان.

- ملف الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع، المرتبطة بقضيّة شركة فوري، وهي الشركة الوهميّة التي قام الحاكم بتأسيسها مع شقيقه رجا، والتي جرى من خلالها اختلاس ما تقارب قيمته الـ 330 مليون دولار من العمولات من المصرف المركزي، بموجب عقد وهمي وخدمات مزعومة لم يتم تقديمها فعليًّا.

- إساءة استعمال المال العام وصرف النفوذ وتوزيع العطايا والمنافع على حساب أموال المصرف المركزي، وهو ما يتصل بمجموعة كبيرة من العقود التي تحايلت على القانون لتقديم أموال لمصارف وشركات متصلة بنافذين.

وهكذا، يفسّر تشعّب الملفّات وتشابكها طول فترة التحقيقات التي قام بها القاضي طنّوس بين نهاية العام 2020 وحزيران 2022، والتي أفضت أخيرًا إلى الادعاء على حاكم مصرف لبنان.

كما يفسّر ذلك سرعة عويدات في طلب الادعاء على سلامة في حزيران الماضي، نظرًا لدسامة الملف وحجم الشبهات التي ينطوي عليها، والتي لم يكن من الممكن تجاهلها، في ظل الملاحقات القضائيّة الجارية بحق الحاكم في الخارج.

محاذير وأفخاخ
بالرغم من أهميّة خطوة الادعاء على سلامة، يشير متابعو الملف اليوم إلى مجموعة من الأفخاخ والمحاذير التي يمكن أن ينطوي عليها المسار خلال الفترة المقبلة، والتي يمكن أن تسمح للحاكم بشراء الوقت لأشهر مقبلة، والتملّص من المحاسبة المنتظرة.

فالادعاء على سلامة، أحال الملف إلى قاضي التحقيق الأوّل في بيروت شربل أبي سمرا، الذي سيكون بإمكانه اليوم –بناءً على أحكام اتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد- إرجاء التعاون مع التحقيقات الأوروبيّة لأشهر من الزمن، بحجّة دراسة الملف المعقّد والمتشعّب. مع الإشارة إلى أنّ حساسيّة هذه المسألة تتصل بقرب موعد زيارة وفود التحقيق الأوروبيّة في شهر آذار المقبل.

جميع هذه المخاوف، تتصل بخلفيّة أبي سمرا، وطريقة تعاطيه السابقة مع جميع الملفّات المتصلة بالشأن المالي، ومنها على سبيل المثال رد الادعاء على ميقاتي المتصل بقضيّة الإثراء غير المشروع، بحجّة مرور الزمن على هذه القضيّة. وهذا القرار تعارض يومها مع قانون الإثراء غير المشروع نفسه، الذي يستثني هذا الجرم بالتحديد من مفعول مرور الزمن.

ومن المعروف أنّ أبي سمرا رد كذلك شكوى مقدّمة بحق وزيري الاتصالات محمد شقير وجمال الجرّاح، في فضيحة إيجار وشراء مبنى شركة تاتش، فيما تم فسخ قراره يومها من قبل الهيئة الاتهاميّة.

باختصار، لا يثق كثيرون بنوايا أبي سمرا وخلفيّته، فيما يزيد من كل هذه الهواجس إقبال أبي سمرا نفسه على التقاعد خلال أشهر معدودة، ما سيعني إمكانيّة المماطلة لأشهر قبل إعادة الملف لنقطة الصفر بعد تقاعده. وخلال هذه الأشهر، ستكون قاضية التحقيق الفرنسيّة قد خرجت من الخدمة في شهر أيّار المقبل، ما سيؤثّر بدوره على سرعة التحقيقات الفرنسيّة في حال تمكّن أبي سمرا من إعاقة التعاون مع التحقيق الفرنسي، خصوصًا أن القاضية الفرنسيّة كانت تعد العدّة لإنجاز تحقيقاتها في بيروت في شهر آذار لتقديم الادعاء قبل مغادرتها منصبها.

بإمكان أبي سمرا خلال الأيام المقبلة تكذيب كل الشكوك التي تحوم حول عمله، بخطوة بسيطة وسريعة جدًا، وذلك من خلال نقل الملف إلى قاضي تحقيق آخر في بيروت.

فاتجاه أبي سمرا للتقاعد خلال فترة قصيرة، وعدم قدرته على مراجعة الملف والتحضير له خلال هذه الفترة، يفترض أن يدفعه للتنازل عن النظر في الملف إذا كان المطلوب فعلًا تحقيق العدالة وعدم المماطلة.

سلامة سيشتري الوقت وسؤال حول مصيره
في الوقت الراهن، ثمّة من يشير اليوم إلى أنّ الخطوة المنتظرة من جانب سلامة هي محاولة شراء الوقت، من خلال تقديم الدفوع الشكليّة أولًا، والتي ستستند أولًا إلى الحصانة القانونيّة التي يملكها كرئيس لهيئة التحقيق الخاصّة.

ومن المعلوم أنّ سلامة حاول استعمال هذه الورقة سابقًا، قبل رد طلبه، كون هذه الحصانة لا ترتبط إلا بسياق عمله كرئيس للهيئة، لا كحاكم لمصرف لبنان. لكن ورغم هشاشة هذه الورقة، من الأكيد أن سلامة سيحاول استعمالها مجددًا، لتمرير الوقت بانتظار تقاعد أبي سمرا وإبطاء التحقيقات الجارية في الملف.

قطع الطريق على كل هذه المحاولات، يفترض أن يمرّ أولًا وقبل كل شيء بمصير سلامة نفسه. إذ أن الحل الأمثل لهذه الإشكاليّة، بعد الادعاء على سلامة، ليس سوى العمل على عزل الحاكم من منصبه، إمّا عبر تعيين حارس قضائي على المصرف المركزي، أو من خلال مجلس الوزراء نفسه.

ورغم جميع التعقيدات السياسيّة التي تحيط بهذا الخيار، يبقى عزل الحاكم أقل كلفة من بقائه اليوم، بالنظر إلى الكلفة المرتفعة لتمسّكه بكل صلاحيّات الحاكميّة في ظل الملاحقات القضائيّة الجارية بحقّه في لبنان والخارج.

في خلاصة الأمر، يبقى أهم ما في الموضوع هو دور الدولة اللبنانيّة نفسها في ملاحقة الأموال المختلسة، التي تشير إليها صفحات هذا التحقيق. المشكلة الأبرز اليوم، هي أن جميع هذه الأموال مازالت محتجزة في أوروبا لصالح المحاكم الأجنبيّة، بدل أن تسعى الدولة –عبر محامي دولة- إلى ملاحقتها ووضع الحجوزات عليها. وهذا المسألة تتصل أيضًا بمهام الحكومة ووزارتي العدل والماليّة، اللتان تتصرّفان وفق سياسة "النأي بالنفس" عن كل هذه القضيّة.