نيتشه وداروين والعولمة ودور لبنان

كتب د. شفيق مقبل: 

لبنان في اليوم التسعمائة واثني عشرة بعد جريمة 4 آب والمئة وثماني وثلاثين بعد مقتل مهسا أميني والثاني وتسعين من دون رئيس بعد عهد الانهيار

مع دخولنا في شهر شباط تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا بمآسيها وضحاياها الأبرياء في شهر تنهي فيه سنتها الأولى. يقف العالم أمام هول ما يحصل وتردداته ومخاطره على الإنسانية جمعاء مراقبا متسائلا الى أين نذهب من هنا. كتبت في التاسع عشر من شهر شباط من السنة الماضية عن العولمة وضغوطها على دول ومجموعات لا تجد لنفسها موقعاً فيها، فتتحول نحو زرع الإرهاب والدمار. للعولمة فوائد لا تحصى، ولكنها لا تترك متنفساً لمن لا يجد دوراً فيها فيندفع رافضا نحو حلول هدامة وثقافة موت رفضي. أما وقد صغرت الأرض بنا وزادت قدراتنا، يهدد تحول البعض الى ثقافة الموت الإنسانية جمعاء. يظهر السؤال الكبير: كيف تتعايش هويات مختلفة وثقافات متعددة في مساحة جغرافية تصغر كل يوم. والجغرافيا هي الثابت الوحيد. يبرز هنا دور لبنان التعددي. كيف نعيش سوياً في مساحة جغرافية محدودة؟ لذا يشتد الإيمان بهذا البلد النموذج الذي في سقوطه تتراجع ساعة الأزمنة وفي قيامته يزداد الأمل في غد أفضل.

لا نكشف سراً في التأكيد على التحديات الجمة التي يواجهها المشروع اللبناني. فإرادة القوة التي تحرّك الكثير من القادة وتستقطب الكثيرين معطوفة على الهويات الفئوية، تمعن في إبعاد الجماعات اللبنانية عن بعضها البعض. تأمل نيتشه في هذه الإرادة فرأى فيها سر "التغلب على الذات". لا يوصف نيتشه هذه الإرادة بسيئة أو جيدة. هي تتجسد بناء أو هدماً حسب الظروف. في المقارنة تقول نظرية داروين بأن النضال للبقاء يدفع نحو التطور بانتقاء طبيعي. نعيش هذا يومياً في هذا الفضاء اللبناني الصغير، وهو مختبر لهذه النظريات قد يخدم العولمة وتحول الأرض الى قرية.

تشكل العولمة في يومنا هذا السياق الذي يحول إرادة القوة الى هدم أو بناء. ونعم يتكيف الكثيرون مع تلك الإرادات هنا وهناك في نضال مستدام للبقاء. حولّت إرادة القوة لبنان الأرز الى ما سُميَ "جهنم". فكيف لنا أن نعكس هذا المسار خدمة لنا وإشارة للعالم؟ نبحث عن حلٍ هو موجود في كينونة بلدنا الجميل. نعرفه في ذواتنا. هو محورية الإنسان وعزته. لا تلتقي الجماعات الا على دور الإنسان وعزته. هذا هو الأقنوم الجامع. هذا ما يدفع إرادات القوة للعمل البناء. وهذا ما يجب أن يبعد الخطر عن الإنسانية في عالم يصغر، فيما قدرات البناء والهدم فيه تنمو. في التكرار الأزلي بين توالي حقبات السلام والنزاع ثابت هو تطور القدرات الإنسانية، قدرات باتت تبني بسرعة وعظمة وتهدم بسرعة وعظمة أيضا.

في المحصلة على العولمة والإنسانية جمعاء أن تتنبه لمنع قيام مساحات تتحول فيها إرادات قوة نحو الهدم المدمر بل عليها إيجاد مساحات تسمح للألوان المتعددة أن تجتمع في قوس قزح جميل. ما نراه اليوم في لبنان على صعيد البلاد أو في العديد من مؤسساتها من إرادات قوة مريضة ومثلها نراه على الصعيدين والدولي. يجب معالجة مشاكل هذه الإرادات بتأن فائق. في التوازي لا بد من تغيّر أساسي في التربية على محورية الإنسان وعزته كضمانة للبقاء والتنمية وتفادي الزوال. بين نيتشه وداروين وبين العولمة ودور لبنان الصغير نرقص متمسكين بثقافة الحياة.