أبعد من حادثة شاطئ صيدا: تخوّف من تكريس التقييد؟

حادثة عابرة أم نمط يتكرّس تدريجاً: تلك هي الإشكالية التي تُطرح بعد ما حصل أخيراً على شاطئ صيدا. وأبعد من المنع، وأبعد من التحركات والتحركات المضادة التي حصلت، أين المخاوف الحقيقية؟ وأين الحدود الفاصلة بين حرية الأفراد واحترام المعتقدات العامة؟

كل هذه المعادلات ينبغي ألا تُطرح في بلد كلبنان، مكرّس منذ ولادته، على أنه بلد الحريات والتعدّد والانفتاح، وبلد التعايش. والأهم أنه بلد، نالت فيه المرأة الحقوق، منذ زمن، لا اليوم، وكانت تعيش حياتها الاجتماعية والمهنية كما تشاء. من هنا، إن مجرد طرح الموضوع وإعادة استنهاض بعض الشعارات، هو بحد ذاته دليل على حجم التراجع الذي وصلت إليه البلاد... فكيف إذا ترافق الكلام مع ترجمات على الأرض. عندها، يصبح الواقع مدعاة الى القلق.

ما حصل في صيدا هو أبعد من إشكال حول ارتداء لباس البحر، بل هو مظهر من مظاهر المنع والتقييد بدأ يتكشّف رويداً رويداً. والدليل أنه في الاعتصام نفسه على شاطئ صيدا، سُمعت أصوات رافضة لإقامة حفلات فنية في المدينة، تماماً كما حصل الصيف الفائت، حين مُنعت إحدى الحفلات...

هذا النمط الذي يُتخوّف من أن يكون بدأ بالتمدّد، يدفع الى السؤال المشروع والملحّ: أيّ مخاوف جدّية؟ وأين الدولة في هذا المجال؟

أولاً، إن شاطئ صيدا هو شاطئ يخضع لسلطة وزارة الأشغال، لكونه شاطئاً عاماً، وهو بالتالي يُعدّ مرفقاً عاماً.

ثانياً، من واجب وزارة الداخلية تنظيم أيّ تحركات أو احتجاجات قد تحصل على الأراضي اللبنانية، وهي، وفق القانون، توعز الى البلديات ببعض التوصيات أو التعليمات.

ثالثاً، البلدية وهي السلطة المحلية، تتمتع بصلاحيات واسعة لمنع أي احتكاك قد يهدّد سلامة أراضيها أو مواطنيها. وهي في هذا الإطار، كانت قد اتخذت قراراً بمنع إقامة أيّ نشاط أو تحرك عند الشاطئ، إلا بعد الحصول على ترخيص وإذن رسمي مسبق من البلدية.

وتبعاً لهذه المسؤوليات، فإن وزارة الداخلية رفضت لـ"النهار" التعليق على ما حصل، ولم تعلق سلباً أو إيجاباً على التحركات والتحركات المضادة.

أما رئيس البلدية محمد السعودي، بعد محاولات عديدة، فقد تعذر الاتصال به لأخذ موقفه.

وأبعد من المواقف الرسمية، فإن الدستور اللبناني نص على حرية التعبير والمعتقد، وأن المواطنين سواسية في كل الأراضي اللبنانية، وبالتالي فإن اللباس هو إحدى هذه الحريات والحقوق، شرط ألا تتحوّل الحرية الى فوضى أو مسّ بأيّ من مسلّمات السلم الأهلي.

سحب البساط

على المقلب الآخر، تحرك الكثير من الناشطين الحقوقيين والاجتماعيين، ذكوراً وإناثاً، خوفاً من تمدّد هذا النمط، وتكريساً لحماية الحريات. فهل أمكن السؤال الآتي: من الرابح من معركة شاطئ صيدا؟

تجيب الناشطة الحقوقية والنسوية والاجتماعية الدكتورة جوزفين زغيب "النهار": "هي ليست همروجة. حضّرنا لها، وأغلب الجمعيات النسوية شاركت معنا، وقد صدر موقف موحّد من التحالف النسوي الذي يضمّ نحو 50 جمعية". وتؤكد أن "المعركة الأساسية هي معركة حريات، وهي معركة دولة مدنية تؤكد وتساوي العدل لكل المواطنين، إن كانوا نساءً أو رجالاً، مسلمين أو مسيحيين... هذه الدولة اللبنانية وهذه قوانينها، ولا بد من احترام وتطبيق المعايير التي أقيمت من أجلها دولة لبنان".

عظيم، ما الخطوة المقبلة؟ تلفت زغيب الى "أننا مستمرون، والتصريح الأخير لوزير السياحة الذي طلب من بلدية صيدا السير بالمعايير العادية التي تطبّق على كل المسابح العامة، وعدم جعل منطقة صيدا منطقة مختلفة أو منطقة تخالف القوانين والدستور اللبناني، هو أكبر دليل على صوابية تحرّكنا. إنه موقف صارم أتى نتيجة ضغطنا".

من الرابح؟ تجيب: "نحن عيّنا محامياً، ونتجه قريباً الى تقديم شكوى أمام مجلس شورى الدولة ضد بلدية صيدا على هذا التصرّف غير المفهوم. ليحكم القضاء وينصر الحريات. حاولنا التواصل مع رئيس البلدية وفشلنا. نحن ننتظر منه مبرراً وجواباً قانونياً وديموقراطياً يساوي بين كل اللبنانيين. إنه انتصار للحريات والدستور. هذا هو الربح الأكبر".

وتكشف عن "التحضير لمؤتمر كبير عن الحريات وأي تعرض لها. هنا لبّ المشكلة. إنه الاعتداء على الحريات، ونحن سنواجه ذلك، من أي جهة أتى الاعتداء، إن كانت حزبية أو دينية أو سياسية".

إن أول تعدٍّ، وفق زغيب، "كان من جهة غير رسمية، حين طلب أحد المشايخ من السيدة وزوجها مغادرة الشاطئ العام. هذا الشاطئ هو تحت سلطة وزارة الأشغال، وليس تحت سلطة البلدية. لكن بعد المنع، سحبت البلدية البساط من تحت الوزارة، ووضعت لافتات على الشاطئ تطالب باللباس المحتشم. أولاً، من يفسّر لنا ما هو اللباس المحتشم؟ ثم من يراقب ذلك ومن ينفذ التقيّد باللافتات؟".

منع لا يفيد

... أبعد من الحادثة. هل يمكن أن نكون أمام نمط قد يمتدّ على مناطق أخرى أو يتخذ أشكالاً أخرى، قد تطاول المشروب أو الحفلات أو غيرها من المظاهر.

تشير زغيب الى "أن الجمعيات الحقوقية والنسوية ستواصل تحرّكها، لأنها معركة حريات. نريد أن نؤكد حقنا في الشاطئ العام، وفي لباسنا، وحقنا في عدم التعدّي علينا، والحملة ستكبر حتماً لأنها خلقت رأياً عاماً. ما يريحنا أن اللبناني لا يزال يعرف حقوقه، ويضغط على الرأي العام، لأنه يؤمن بالدولة المدنية وبالحريات العامة".

وتلفت الى "التضامن الكبير الذي أتى من أهل صيدا أنفسهم. من المؤسف أننا لا نزال نتحدّث عن غبن وعن تخوّف من خصوصية ما أو أعراف دينية أو حزبية، أو عائلية أو زعامات أو إقطاع. إن الخصوصيات موجودة في ذهننا وكأننا نقسم على هذا الأساس. من الخطأ التعوّد على هذا الأمر، لا بد من العودة الى القانون الواحد الموحّد، هو الذي يغلب كل الخصوصيات، كما كان لبنان دوماً. كفى خصوصيات وأعرافاً، لأنه حان الوقت للتحدّث عن جمهورية لبنان".

باختصار، إن المنع لن يفيد. فالممنوع في منطقة يكون مسموحاً به في شواطئ ومناطق أخرى، أما المقلق فهو أن نعمد الى تقسيم لبنان وفرزه، فنكون نتراجع أكثر فأكثر، فيما دول أخرى، كالسعودية مثلاً، باتت مثالاً كبيراً في مدى التقدّم الذي تحرزه على أكثر من مستوى... إنها مفارقة بالفعل!