أرقام حوادث السير لا تزال "مُقلقة"... فهل الحذر كافٍ لتجنب المآسي؟

على الرغم من المحاولات المتواصلة لتحسين معايير السلامة المرورية في لبنان، تظل الطرق اللبنانية أشبه بمصائد للموت، تُسجل يوميا أرقاما مرتفعة لحوادث السير، التي تترك وراءها خسائر بشرية ومادية جسيمة. الأرواح تُزهق، والأسر تُفجع بفقدان أحبائها، بينما يبقى النزيف على الأسفلت مستمرا دون حلول جذرية تضع حدا لهذه المأساة.

ليست هذه الحوادث محض صدفة، بل نتيجة مباشرة لاهتراء البنى التحتية، وغياب الصيانة عن الاوتوسترادات والطرق الرئيسية، وافتقار المناطق إلى تدابير السلامة المطلوبة. وما زاد الطين بلة، أن الطرق اللبنانية لم تكتفِ بلعب هذا الدور القاتل في ظل السلم النسبي، بل تحولت خلال العدوان الأخير إلى هدف مباشر للقصف "الإسرائيلي"، اذ عمد جيش العدو إلى تدمير طرقات حيوية واستراتيجية، أبرزها معبر المصنع، الذي يُعتبر شريانا حيويا يربط لبنان بسوريا. كما طالت الغارات معابر أخرى، مثل معبر جوسية ومعابر جنوبية، لتضاعف من معاناة المواطنين وتقطع سبل التنقل والإمداد.

هذه الصورة القاتمة عن الطرق اللبنانية، هي انعكاس لواقع مأسوي يعكس إهمالًا طويل الأمد للبنية التحتية، وضعف التخطيط، والعجز عن وضع خطط طارئة تضمن سلامة المواطنين. إنها دعوة مفتوحة لإعادة التفكير بجدية في معالجة هذه الأزمات المزمنة ،التي أصبحت جزءًا من الحياة اليومية في لبنان.

خطر مستمر واستقرار نسبي يُثير التساؤلات

يقول الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين لـ "الديار": "يمكننا القول إنه خلال الأشهر الأحد عشر من هذه السنة، أي من كانون الثاني إلى نهاية تشرين الثاني، مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم، كانت حوادث السير شبه مستقرة، بمعنى أنها لم تشهد أي تبدلات جذرية. بحيث ارتفع عدد الحوادث بنسبة 1.17%، أما عدد القتلى فارتفع بمعدل 1.2%. في المقابل، انخفض عدد الجرحى بنحو 4.3%. ولذلك، نستطيع القول إن وضع حوادث السير خلال 11 شهرا من هذا العام مقارنة بالعام الفائت لم يختلف بشكل جذري أبدا، بل يمكن القول إن الوضع مستقر باستثناء تراجع طفيف في أعداد الجرحى".

ويضيف: "ويُرجع السبب في هذا الاستقرار إلى وجود عوامل عديدة، يتصدرها "أن الواقع لم يزداد سوءا خلال هذا العام عما كان عليه في السنة الماضية، وربما كان السير أقل نتيجة الحرب "الإسرائيلية" في الجنوب، وربما بات السائقون أكثر حذرا نتيجة الأوضاع التي أصبحوا يعرفونها عن كثب، سواء بالنسبة إلى الحفر التي تتوسط الطرقات أو الإنارة أو المنحدرات الشديدة. وبالتالي، يمكن القول إن مجموعة هذه الأسباب أبقت الأمور على حالها ولم تشهد تطورات ملحوظة".

 

ووفقا للمعلومات من خبراء سير، فان "الإحصاءات تشير إلى تزايد حوادث السير في لبنان خلال عام 2024، مما يثير القلق بشأن سلامة الطرق والبنية التحتية. طبقا لجمعية "يازا"، بلغ عدد القتلى جراء حوادث السير على الطرقات اللبنانية 262 قتيلاً حتى سبتمبر 2024، مع تسجيل 21 قتيلاً في شهر أيلول فقط".

 

المعدلات المحلية "مخيفة"!

من جهة أخرى، وعلى الصعيد العالمي، تشير التقارير إلى أن حوادث المرور تودي بحياة حوالي 1.3 مليون شخص سنويا، مع إصابة ما بين 20 و50 مليون شخص آخرين. تُعزى هذه الحوادث إلى عوامل متعددة، منها السرعة الزائدة، وسوء حالة الطرق، وعدم الالتزام بقوانين السير.

في ما يتعلق بلبنان، يُظهر معدلات مرتفعة لحوادث السير مقارنة بالمعايير الدولية. وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، يُسجل لبنان معدل وفيات ناجمة عن حوادث الطرق يبلغ 12.5 لكل 100,000 نسمة، وهو أعلى من المتوسط العالمي البالغ 10.3 لكل 100,000 نسمة.

 

من هنا، تُبرز هذه الأرقام الحاجة الملحة إلى تحسين البنية التحتية للطرق في لبنان، وتعزيز تطبيق قوانين السير، وتكثيف حملات التوعية للحد من حوادث السير وضحاياها.

 

تعددت العوامل والموت واحد!

في سياق متصل، تؤكد الخبيرة في هندسة المرور والتي تعمل في منظمة دولية السيدة ريم لـ "الديار" ان "الأسباب الكامنة وراء هذا الواقع مباشرة وغير مباشرة. من بينها:

- الاهتراء: تعاني معظم الطرقات اللبنانية من غياب الصيانة الدورية، مع وجود حفر، تصدعات، وإشارات مرورية مفقودة أو غير واضحة.


- غياب الإضاءة: تفتقد الكثير من الطرق الرئيسية الى الإنارة الليلية، مما يزيد من احتمالية وقوع الحوادث.

 

- انعدام التخطيط الحضري: يفاقم انتشار البناء العشوائي وقرب الأبنية من الطرق السريعة من المخاطر، خاصة في ظل انعدام الحواجز الوقائية.

كما تتطرق الى أسباب أخرى منها سلوكية وتشمل:
 
 
- السرعة الزائدة: يُعتبر التهور في القيادة وعدم الالتزام بالحدود القصوى للسرعة من الأسباب الرئيسية للحوادث.


- عدم الالتزام بقوانين السير: مثل تجاوز الإشارات الحمراء، القيادة تحت تأثير الكحول، وعدم استخدام حزام الأمان.

- الضغوط النفسية: تُثقل الظروف الاقتصادية والاجتماعية كاهل السائقين، مما يضاعف من حالات التوتر والقيادة المتهورة.

وتتابع "بالإضافة الى ما تقدم، هناك عوامل اقتصادية واجتماعية مثل:

- غياب الرقابة الجادة: يؤدي ضعف تطبيق قوانين السير بشكل صارم إلى استمرار المخالفات دون محاسبة فعلية.

- الأزمات الاقتصادية: ينتج منها إهمال الصيانة، وضعف الاستثمار في تحسين البنية التحتية، وزيادة استخدام سيارات قديمة وغير صالحة تقنياً.

- الهجرة القسرية: خلق التهجير الداخلي الناجم عن الأزمات والحروب، ضغطًا إضافيا على الطرق، مع زيادة الكثافة المرورية.

وتشير الى "التحديات الأمنية والسياسية التي تتضمن النقاط التالية:


- القصف "الإسرائيلي" للطرقات: تتحول الطرق خلال الأزمات العسكرية، إلى أهداف مباشرة، مما يؤدي إلى دمار إضافي ويزيد من حدة الأزمة.

- ضعف التخطيط الطارئ: غياب خطط طوارئ لتهيئة الطرق واستيعاب الأزمات، مثل الاشتباكات المسلحة أو النزوح الجماعي.

وتُبيّن انه "في الدول المتقدمة، تؤدي السياسات المرورية الصارمة والبنية التحتية الجيدة إلى خفض نسبة الحوادث، بينما يعاني لبنان من تداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يضعه في وضع حرج. لذلك، حوادث السير في لبنان هي انعكاس واضح لفشل نظامي ممتد، حيث تُركت البنية التحتية والسلامة المرورية دون حلول جذرية لعقود".

 

الحلول المقترحة

في الختام تتحدث ريم "عن الحلول المقترحة وتتمثل في إطلاق خطط شاملة لصيانة الطرق وإعادة تأهيلها، مع اعتماد مواد مقاومة لعوامل الطقس، وتشديد العقوبات على المخالفات، وتفعيل أنظمة المراقبة عبر الكاميرات. بالإضافة الى نشر ثقافة الالتزام بقوانين السير عبر الإعلام والمدارس. وتشدد على الدعم الحكومي والدولي للحصول على تمويل مالي وتقني من المنظمات الدولية لتحسين سلامة الطرق".

في الخلاصة، تفتح "الديار" ملف حوادث السير في لبنان باعتبارها ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل نتيجة تداخل عوامل متعددة تتطلب حلولًا جذرية وشاملة. بدءا من تحسين البنية التحتية، وضبط السلوكيات الفردية، وتفعيل القوانين بصرامة، فهي خطوات أساسية للحد من هذه الكارثة الإنسانية.