أزمة المياه في بيروت وضواحيها تطلّ مجدداً والسبب الامطار الغزيرة!

لا نظير لقدرة اللبناني على استكمال نواقص وظائف الدولة وخدماتها لمواطنيها عبر ابتداعه الحلول والسبل التي تؤمّن له الخدمات الأساسية التي عجزت المؤسسات والمصالح الرسمية عن تأمينها. فانتشرت على هامش مؤسسات الدولة الخدماتية، قطاعات موازية بالجملة توفر الخدمات عينها بصورة مستدامة أكثر، ولكن بكلفة أكبر حشرت المواطنين في زاوية "مكره أخاك لا بطل".

صار "موتور" الحيّ رديفاً لكهرباء "الدولة"، وفي الآونة الأخيرة بديلاً منها، بعدما تناقصت التغذية إلى ساعتين يوميا فقط، فيما تحولت شبكات الإنترنت غير الشرعي تعويضا ملحّا لضعف إرسال سنترالات الدولة، وكذلك روت الصهاريج الخاصة ظمأ خزانات المنازل والمصالح التجارية والصناعية، حينما جفّت قساطل الشبكات من المياه التي "تجعل كلَّ شيء حيّ".

الناظر الى مشاهد البرك والسيول الجارفة على طرقات لبنان عند تساقط الأمطار، ينتابه الظن واليقين بأن الـ"خير" النازل من السماء هو النعمة الطبيعية التي "سـتطوف" بها خزانات البيوت العطشى، وستهدر في القساطل والحنفيات المنزلية. أما الواقع فمختلف كليا، والحقائق التي تشرح واقع قطاع المياه في لبنان موجعة ومريرة، ويشوبها الكثير من الأسى والأسف لما آلت إليه أوضاع الخدمات المائية في اكثر بلدان المنطقة هطولا للأمطار لقربه من البحر وجغرافيته الجبلية بمعظمها، فيشترونها من أصحاب صهاريج وخزانات منقولة لتأمين قضاء حاجات ونظافة عائلاتهم وبيوتهم، علما ان معظم هذه الصهاريج لا تستوفي الشروط الصحية لنقل المياه، ولا تخضع للرقابة من أي جهة، باستثناء متابعات خجولة لقلّة من البلديات لنوعية المياه المباعة في نطاقها، ونظافة الصهاريج، فيما يتداول الناس أخبارا وقصصا مشينة عن توزيع مياه ملوثة بمياه مبتذلة، وأخرى ترتفع فيها الملوحة إلى نِسب غير صحية، إضافة إلى الإبتزاز المتمادي في الأسعار من أصحاب الصهاريج وتجار المياه، عند لمس حاجة المواطن الملحّة اليها.

لم تعد عملية نقل المياه بالصهاريج وبيعها حالة استثنائية ظهرت إبان الحرب، بل تعدّت ذلك إلى تحوّلها قطاعاً موازياً وحيوياً، له مستثمروه بملايين الدولارات، وآبار ومصادر مياه منها المرخص من وزارة الطاقة أو وزارة الداخلية، فيما معظمها غير قانوني ويعمل بحكم الأمر الواقع أو الحماية السياسية و"الواسطة". ويمتلك أصحاب هذه الإستثمارات شبكة من الصهاريج مختلفة الأحجام والخزانات، تتوزع في المناطق والأحياء، وتتنافس وتمارس الإحتكارات للأحياء بين بعضها البعض.

ومن السخرية أن بعض أبناء "الكار" هذا، نشروا شبكات من الـ "نرابيج" بين الأبنية وفوق أسطح المباني، على غرار مولّدات الأحياء الكهربائية، وسبقوا الدولة في تركيب عدادات ذكية لمراقبة التغذية وتحديد استهلاك المشترك، وضبط الفوترة بالدولار طبعا.

وتؤكد مصادر متابعة أن "مجموعة عوامل متداخلة أدت إلى ما أدى إليه النقص والتقنين القاسي بالتغذية المائية، منها النكد السياسي الذي أوقف وعرقل مشاريع وبنى تحتية لتطوير القطاع وتأمين الخدمة كاملة، ومنها المالي والتمويلي الذي تأمن منه الكثير عبر المنظمات والمؤسسات الدولية والدول الصديقة المانحة، لكنه لم يفِ كليا بالحاجة وبقي الكثير من مشاريع البنى التحتية وشبكات التوزيع ومعامل التكرير والتعقيم في انتظار الفرج، من دون أن ننسى إنعكاس الأزمة المالية والنقدية على الواقع المالي لمصالح المياه، التي تأخرت حتى استطاعت رفع سعر التعرفات إلى الحد الذي يمكن معه تأمين الصيانة لما هو موجود من جهة، ولتأمين فاتورة المحروقات الهائلة التي تستهلكها محطات الضخ والتوزيع، وهي إلى جانب الرواتب والأجور تعتبر الأكبر وبالدولار الفريش".

 

نسبة "العكارة" مرتفعة

على رغم ارتفاع نسبة هطول الأمطار وتدفق الينابيع، يعاني سكان منطقة بيروت وضواحيها منذ أكثر من اسبوع من انقطاع كلّي لمياه الخدمة من دون أن يكون ثمة بيان توضيحي من مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان حيال المشكلة، ولكن المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران أكد لـ"النهار" أن الوضع عاد الى طبيعته أمس بعدما تمت معالجة المشكلة، عازيا سبب الانقطاع الى "غزارة الأمطار في الأيام الأخيرة بما أدى إلى ارتفاع كبير في نسبة "العكارة" في معظم الينابيع التي تشكل المصادر الرئيسية لمحطات الضخ، ما اضطر المؤسسة إلى توقيف عمل محطات الضخ لأيام عدة، ريثما تنخفض نسبة العكارة في الينابيع وتنجز فرق عمل المؤسسة أعمال التكرير في المضخات"، مؤكدا أن "الامور تعود تدريجا الى طبيعتها، وسيعاد توزيع المياه بحسب البرنامج المعتاد".

ولم يستغرب جبران سؤال "النهار" عن أن ثمة مافيات من أصحاب الآبار والصهاريج تتعاون مع موظفين في مؤسسة المياه بغية قطع المياه عن المشتركين بين فترة واخرى لضمان عمل هؤلاء مقابل بدل مالي، وقال: "أسمع مثل هذه الشائعات كثيرا، ولكن هذا تجنٍّ وافتراء على الموظفين. على كلٍّ فليثبتوا بالأدلة الدامغة أن هذا الامر يحصل، وأنا على استعداد لتقديم شكوى في حق المتورطين أمام النيابة العامة".

وطمأن الى أن وضع المياه مستقر وخصوصا في فصل الشتاء، إذا لم يحصل اي عطل طارىء، فيما نسبة الاشتراكات في ازدياد مطّرد كون اسعارها لا تزال أقل بكثير من أسعار مياه الصهاريج. ولكن ماذا عن فترة الصيف؟ هل يمكن أن يتكرر مشهد العام الماضي حيث عانى المواطنون الامرّين من جراء الانقطاع شبة الدائم للمياه؟ بالنسبة لأزمة العام الماضي، أوضح جبران أنه "كانت هناك أزمة سيولة في المؤسسة لتأمين ميزانية لشراء المازوت في ظل الانقطاع المتكرر للكهرباء، ولكن لا اعتقد أنها ستتكرر هذه السنة خصوصا أن رسوم الاشتراكات ارتفعت لتصبح سنويا نحو 13 مليون ليرة بما يؤمّن للمؤسسة ميزانية كافية لشراء المازوت، مع الاخذ في الاعتبار ان نسبة الاعطال خفّت مع تجاوب المتعهدين معنا، وكذلك مساعدة الجهات المانحة في هذا الاطار".

مصادر وزارة الطاقة تؤكد أنها تمنح تراخيص آبار للاستثمار الصناعي التي تشمل تعبئة مياه للاستخدام (صهاريج)، وتعبئة مياه معدنية او طاولة (بحسب تعريف وزارة الصحة العامة مياه الطاولة هي المياه النظيفة الصالحة للشرب، لكنها تفتقر الى المعادن الصحية، علما أن نصف الشركات المرخصة في لبنان مصنفة في خانة "مياه الطاولة")، وصاحب الرخصة يختار وجهة استثمار البئر، فإما أن تكون مياها للاستخدام أو مياه طاولة بناء على ترخيص من وزارة الصناعة، أو مياها معدنية بناء على ترخيص من وزارة الصحة.

وقدرت المصادر عدد الآبار المرخصة بنحو 200 بئر فيما العدد الاكبر من الآبار غير مرخص، عدا عن أن عددا كبيرا من اصحاب التراخيص لا يسددون الرسوم المتوجبة عليهم. وقد أعدت وزارة الطاقة لائحة بنحو 200 بئر غير مرخصة، وأرسلتها الى النيابة العامة والمحافظات من دون أن تلقى اي تجاوب حتى الآن، علما ان المناطق التي تضم العدد الاكبر من الآبار المرخصة وغير المرخصة هي: بصاليم والجديدة وانطلياس وبعبدا والمنصورية، وهذه الآبار تبيع للصهاريج التي بدورها تبيعها للمواطنين في بيروت وضواحيها.