أسعار المواد الغذائية "تحلّق"... ما الأسباب؟

في ظلّ التراجع النسبي في معدلات التضخم وفق مؤشرات "الإحصاء المركزي"، يواجه اللبنانيّون مفارقة لافتة بين الأرقام الرسمية والواقع المعيشي اليومي. ويبدو أن أرقام التضخم على الورق، تدحضها أرقام أسعار السلع على الرفوف في السوبرماركت. 

على الرغم من استقرار سعر الصرف عند حدود 89,500 ليرة للدولار وتراجع نسب التضخم السنوية إلى نحو 15 %، ما زالت الأسعار، ولا سيّما أسعار المواد الغذائية والاستهلاكيّة، تسجّل ارتفاعًا ملموسًا يُثقل كاهل المواطنين. هذا التناقض يُثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لاستمرار الغلاء، وضعف الرقابة وتعدّد التسعيرات ممّا يبقي السوق رهينة فوضى الأسعار رغم المؤشرات الاقتصادية الإيجابيّة الظاهرة.

في هذا الإطار، يُوضح الخبير الاقتصادي وعضو هيئة مكتب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في لبنان د. أنيس بو دياب، لـ "نداء الوطن"، أنه "فعليًا، لسنا اليوم بحاجة إلى خبير اقتصادي أو متخصص ليدرك حجم ارتفاع الأسعار في لبنان. فكل من يدخل إلى الأسواق أو السوبرماركت يلمس بوضوح الزيادة الكبيرة في الأسعار، لا سيما في المواد الغذائية، منذ بداية العام وحتى اليوم".

وبالعودة إلى مؤشرات مديرية الإحصاء المركزي، يتبيّن أن "معدلات التضخم شهدت تراجعًا تدريجيًا منذ عام 2020، إذ بلغت حينها حوالى 222 %، وانخفضت إلى 181 % عام 2021، واستمرت بالانخفاض في السنوات اللاحقة. أمّا خلال العام الحالي، ومع استقرار سعر الصرف عند حدود 89,500 ليرة للدولار، فقد سجّل معدل التضخم نحو 15 % كمعدل سنوي مبدئي"، وفق ما يلفت بو دياب.

وعند التدقيق في الأرقام الشهريّة الصادرة عن الإحصاء المركزي، يُلاحظ بو دياب أن "نسبة التضخم في المواد الغذائية تراوحت بين 2 و3 % شهريًا، وهو أمر لافت، خاصة في ظل تراجع أسعار السلع الغذائية الأساسية عالميًا، مثل الزيوت والقمح والذرة. ومع ذلك، ما زالت الأسعار في لبنان مرتفعة".

أسباب هذه الظاهرة

يرى بو دياب أن هذه الظاهرة تُعزى إلى عدة أسباب مترابطة، من أبرزها:

"تراجع القدرة الشرائية للدولار عالميًا بنسبة تتراوح بين 15 و17 % منذ بداية العام، ما انعكس على كلفة الاستيراد في بلد يعتمد على الخارج لتأمين نحو 85 % من سلّته الاستهلاكية.

ارتفاع كلفة الإنتاج المحلي، نظرًا لاعتماد الصناعات اللبنانية على مواد أولية مستوردة، فضلًا عن ارتفاع كلفة الكهرباء والنقل والتمويل، وكلها تُحتسب بالدولار.

استفادة بعض التجار والصناعيين من تعديل الرسوم الجمركية واحتسابها وفق أسعار صرف جديدة (من 1,500 إلى 15,000 ثم إلى 89,500 ليرة)، ما يدفعهم إلى رفع الأسعار بشكل شامل وغير متناسب، وهو ما يؤدي عمليًا إلى إعادة توزيع غير عادلة للثروة لصالح كبار المستوردين والتجار على حساب ذوي الدخل المحدود.

ضعف الرقابة على الأسواق، في ظل غياب أجهزة فاعلة لمراقبة الأسعار، الأمر الذي جعل السوق اللبناني بيئة شبه احتكارية تتحكم بها قلة من المؤسسات، ما ينعكس مزيدًا من الضغط على المستهلكين".

أهميّة المنافسة

يوضح بو دياب، أنه "عندما نتحدث عن إعادة ضبط الأسعار، لا نقصد بذلك تدخّلًا إداريًا أو بيروقراطيًا، لأن لبنان يعتمد نظام السوق الليبرالي الحر. وبالتالي، فإن ضبط الأسعار الحقيقي لا يتحقق بالقرارات التنظيمية، بل من خلال المنافسة".

ويرى أن "المنافسة بدورها تتطلب تحفيز القطاعات الإنتاجية على زيادة إنتاجها، وتعزيز قدرة الاقتصاد الوطني على النمو. وهذا يمرّ عبر منح تسهيلات للصناعات الغذائية وتشجيع القطاع الزراعي باعتبارهما يُشكّلان الأساس في تأمين السلع الاستهلاكية الأساسية للمواطنين".

ويلفت إلى أن "هذه التسهيلات تبقى صعبة التنفيذ في ظل قطاع مصرفي متعثر أو شبه منهار، مما يجعل استقرار الأسعار مرتبطًا فعليًا بإعادة تفعيل الاقتصاد الوطني ككل، سواء من خلال تنشيط القطاعات الإنتاجية، أو إصلاح القطاع المالي والمصرفي، أو تحسين البنى التحتية التي تُعدّ أحد أبرز عناصر كلفة الإنتاج في لبنان".

الكلفة التشغيلية

يتطرّق بو دياب إلى "الكلفة التشغيلية في لبنان"، حيث يعتبرها "مرتفعة جدًا، إذ تصل كلفة الكيلوواط/ساعة من الكهرباء إلى نحو 37 سنتًا، وهي من أعلى المعدلات في العالم. يُضاف إلى ذلك ارتفاع كلفة الإنترنت والاتصالات والنقل، نتيجة غياب بنى تحتية فاعلة وسليمة، ما ينعكس مباشرةً على ارتفاع الأسعار النهائية للسلع والخدمات".

وبالتالي، يُشدّد على أن "أي خلل في البنية الاقتصادية أو في استغلال الموارد الإنتاجية بشكل فعّال يضعف القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني، ويحدّ من إمكانية خفض الأسعار أو تحسين القدرة الشرائية للمواطن".

يختم بو دياب، مؤكّدًا أن "ضبط الأسعار الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال اقتصاد متوازن، قطاع مصرفي سليم، وبنية تحتية فعّالة تتيح للمنتج المحلي العمل بكلفة معقولة ومنافسة عادلة".