المصدر: النهار
الأربعاء 8 كانون الثاني 2025 19:23:27
مع نشر وثيقتين مزعومتين تؤكدان وجود علاقة وثيقة ربما بلغت درجة "التعاون" بين أسماء الأسد والاستخبارات البريطانية، دبّت ليل أمس حماسة لافتة في قنوات التواصل الاجتماعي. وسرعان ما لحقت بعض الصحف بهذه المنابر التي تواصل إغراق الجمهور بمنشورات وأشرطة حول سوريا منذ سقوط نظام الأسد، فيها الغثّ وبعض السمين، إلى جانب الكثير من المواد التي يكاد دورها يقتصر على التحريض وإثارة النعرات الطائفية والترويج لنظريات مؤامرة.
المفارقة أن الغالبية الساحقة من المواقع الإخبارية والصحف اكتفت بتكرار المعلومات التي نُشرت سلفاً عن الوثيقتين، اللتين نُسب الكشف عنهما إلى الإعلامي السوري نزار نيوف. وانشغلت كلها بكون حافظ الأسد كلّف رئيس استخباراته العماد علي دوبا بمراقبة إبنه بشار في لندن التي جاء إليها أوائل تسعينيات القرن الماضي للتخصص في طب العيون. ومن الصعب معرفة سر الحيرة في تكليف الطاغية الشرقي حامي حمى عهده الميمون بتتبع خطى ابن كانت تبدو عليه علائم البلاهة منذ وقت مبكر، وربما خشي عليه من الوقوع في فخ المخدرات التي دمرت عقل نجله الثالث مجد وحياته!
والغريب أن الأسماء البريطانية الكبيرة التي وردت في الوثيقتين، لم تحظَ باهتمام كاف. لا بل تجدر الإشارة إلى أن المطبوعات التي أوردت خبر "الكشف"، اكتفت بما ورد من معلومات قليلة وغير دقيقة أحياناً، عن هذه الشخصيات في الوثيقتين. وكان من المهم تسليط الضوء على مسؤولين أمنيين مثل إليزا ماننغهام -بولر (Eliza Manningham-Buller)، وهي مديرة جهاز "إم آي 5" للاستخبارات الداخلية بين 2002 و2007، إضافة إلى كولين ماكول (Colin McColl) الذي قاد جهاز "إم آي 6 " للاستخبارات الخارجية بين 1988 و1994، إضافة إلى رايموند أسكويث (Raymond Asquith).
ماننغهام -بولر هي أبرز اللاعبين البريطانيين في "قصة أسماء وبشار" هذه. يوحي التقريران المزعومان اللذان قدمهما دوبا إلى الأسد الأب بأنها كانت "راعية" أسماء. هكذا، تدعي الوثيقة الأولى المـؤرخة في 14/12/1992 أن ماننغهام -بولر تناولت الغداء مع أسماء وبشار ووالدة "العروس" سحر العطري، في 21/11/1992 في جناح خاص في فندق راق وسط لندن. وهناك بقي الأربعة وقتاً أطول مما يستغرقه الغداء (ثلاث ساعات) وسط "حراسة مشددة" من عناصر الشرطة السرية الذين لا يستبعد أن تكون ماننغهام -بولر قد استدعتهم. وكانت السيدة في ذلك الوقت رئيسة "قسم "المراقبة والعمليات التقنية" في الاستخبارات الداخلية، قبل أن تُعين لاحقاً رئيسة لقسم "مكافحة الإيرلندي". والتقرير لا يورد وظيفتيها بدقة. ويشير إلى أنها شاركت في لقاء أوسع مع "العريسين" في غضون أسبوعين. ففي 6/12/1992 دُعيت إلى عشاء في بيت الدكتور فواز الأخرس والد أسماء، حضرته مجموعة من الشخصيات.
وكان أسكويث ممن جلسوا إلى طاولة العشاء تلك الليلة. وضابط الاستخبارات السابق الذي صار عضواً في مجلس اللوردات (لورد أكسفورد) في 2014 حقق اختراقاً لايزال موضع إعجاب في عالم الجاسوسية حينما كان مسؤولاً عن محطة "إم آي 6 " في موسكو، إذ استطاع في 1985 أن يهرّب في سيارته أوليغ غوديفسكي، ضابط الاستخبارات الروسية الذي جنده البريطانيون. وكان مقرباً من نظام الأسد حتى عام 2019، على الأقل، عندما صار "مديراً" في "الجمعية السورية البريطانية المحدودة" برئاسة فواز الأخرس، ولايزال فيها بحسب سجلات الشركات لدى الحكومة البريطانية. وتوجه إلى العاصمة السورية في 2016 للمشاركة في مؤتمر نظمه والد أسماء تحت عنوان "تداعيات الحرب في سوريا" وترأس جلسة الافتتاح فيه.
إلا أن الوثيقة الثانية، وهي تقرير مفترض قدمه دوبا في 27/11 1998 إلى رئيسه، تعطي ماننغهام -بولر أهمية أكبر من الأولى. وفي ذلك الوقت كانت قد صارت نائبة مديرة جهاز " إم آي 5 ". إلا أن التقرير الذي يشير إلى قيامها بدور حاسم في "رعاية" أسماء لسبب مجهول (!)، يخطئ في ذكر لقبها وعملها المحدد. وقد بدأ سلفاً أنصار نظريات المؤامرة يتسابقون إلى إبراز أنها توسطت لحصول أسماء على وظيفة محترمة في فرع "بنك جي بي مورغان" الأميركي الشهير في لندن على رغم حداثة عهدها في العمل المصرفي! وبفضل هذه الواسطة، عادت من نيويورك إلى العاصمة البريطانية. والأدهى أن وظيفتها الجديدة كانت استخبارية نوعاً ما. فهي كُلفت جمع معلومات عن استثمارات صينية وآسيوية وكان رئيسها المباشر كولن ماكول، المدير السابق لجهاز "إم آي 6 "!
أول ما يشدّ الانتباه في الوثيقتين، المغالطات تارة في التواريخ وأخرى في الألقاب وغيرها. ويدعو الاهتمام المبكر الذي أبدته مسؤولة أمنية رفيعة المستوى مثل ماننغهام -بولر بأسماء، إلى الاستغراب. فهو جاء بلا مقدمات وفي توقيت مميز، بعيد وصول بشار إلى لندن! و"العريس" لم تكن له أهمية سياسية تُذكر في تلك الفترة، لأن "الوريث" الأصيل، شقيقه باسل كان لايزال حياً. وربما قدمت لأسماء الكثير من "الخدمات" على امتداد ست سنوات، لأن الأخيرة كانت "مفيدة" بشكل أو آخر. ثم هل يستأهل تجنيد أسماء جهوداً مشتركة يبذلها مسؤولان كبيران في جهازي الاستخبارات البريطانيين، تحت إمرة كل منهما مئات الضباط؟
ويبدو أن الشكوك أخذت تضيق الخناق على الوثيقتين، وباتت صدقيتهما موضع تساؤل يتسع نطاقه. ويؤكد مشككون في منشورات على منصة "إكس" أن الوثيقة الأولى زائفة، لأنها طُبعت بخط اسمه "كوكب مونو" بقياس 7.5 لم يدخل إلى الخدمة حتى 2015، أي بعد تاريخ إرسالها المزعوم بـ 23 عاماً!
سواء ثبت أن الوثيقتين هما ثمرة "عملية تزوير، من السهل القيام بها"، أم لا، لابد من التساؤل هل كان بشار في حاجة إلى جاسوسة بريطانية لكي تطلق النار على نظامه الساقط من تلقاء نفسه؟ .