أُصيبت في الإنفجار وبقيت تساعد الناس... "ما رح خليهم يقتلوا فينا الحياة"!

قصص كثيرة لم تُسرد عن انفجار 4 آب، مرّت حوالى السنة وما زالت تداعيات هذه الجريمة الموصوفة تتوالى فصولاً وألماً وانكساراً. بعض الوجوه رسخت في أذهاننا، وجعها ما زال يعيش معنا، لم نعرفها لكن كلماتهم ودموعهم هزتنا جميعاً. وبعض الوجوه نتعرّف عليها تباعاً، نستمع إلى كلمات ذوويهم أو الناجين الذين يسردون اليوم تجاربهم بعد سنة على هذه الفاجعة!

لا تحب كارمن خوري الحديث كثيراً أو الظهور اعلامياً، تتفادى نقل تجربتها، هي التي فصلها عن الموت خيط رفيع، تقف اليوم بكل جروحاتها وذكرياتها، رافضة الانصياع او الاستسلام. رغبة الحياة تطغى على كل التفاصيل البشعة التي عاشتها، لديها من القوة والعزم ما يفوق رائحة الموت... جميلةٌ في صمودها اللامتناهي!

تتذكر كارمن جيداً ذلك النهار المشؤوم، بتفاصيله وأحداثه ومجرياته البطيئة والسريعة التي حفرت ذاكرتها. تروي لـ"النهار" قائلة "في هذا النهار كانت مجموعات عدة من "الثورة" تقود تحركات أمام وزارة الطاقة. وعند الساعة الخامسة، شعرتُ بالتعب وقررت الذهاب إلى شارع مار مخايل في انتظار وصول صديق لي. وبينما كنتُ أمشي هناك، سمعتُ صوت طيران وكنتُ في تلك اللحظة أقف أمام محل "الدنيا هيك". وما هي إلا ثوانٍ حتى دوى الانفجار، وفجأة ساد الدخان والزجاج والحطام غطى المكان".

على قوة الانفجار طارت كارمن مع امرأة كانت إلى جانبها وقذفها تحت سيارة أجرة كانت متواجدة هناك. استيقظت لتجد امرأة إلى جانبها تبصق دماً من فمها، حاولت مساعدتها من خلال الضرب على السيارات التي كانت موجودة بغية نقلها إلى اقرب مركز. قبل ان تلحظ أن السيارات فارغة ولا احد فيها. بدأت تنظر حولها لتجد أن الناس كلها مجروحة ومصابة والدم في كل مكان. تعود إلى تلك السيدة التي كانت بجانبها لتتفاجأ انها توفيت.

يصعب على كارمن أن تنسى هذه المشاهد، ليس سهلاً عليها أن تختبر الموت وتسير إلى جانبه. كانت السيارات مركونة في وسط الطريق والناس مجروحة تمشي في كل الاتجاهات بحثاً عن منقذ. تصف كارمن تلك اللحظات "لم نفهم كثيراً ما حدث، كان الناس يخرجون من منازلهم والاماكن التي كانوا متواجدين فيها، جروح وكسور، البعض يحمل يده والبعض الآخر ينزف.. وجدني شخص أمشي حافية في رجل واحدة واحمل حذائي بيدي، وعرض عليّ نقلي فطلبتُ منه أن يوصلني إلى مستشفى الروم".

وصلت كارمن إلى هناك لتجد أن المستشفى بحالة يرثى لها والأطفال الحديثي الولادة في الشارع موصولين على اجهزة اوكسجين لأحد المولدات في الشارع. كان المشهد أشبه بالجحيم، كارثة حقيقة. انتقلت من الروم إلى الجعيتاوي، كانت آلام تشتد على كارمن دون أن تفهم ما يجري. لم تخضع لأي فحوص أو تصوير واكتفوا بوضع "bandage وردولي كتفي لأنو كان مخلوع".
عادت كارمن إلى منزلها لتجد ان الواجهة محطمة بالكامل على الكنبة التي يجلس عليها أطفالها كل يوم في مثل هذه الساعة لمشاهدة الأفلام. لم تتمالك المشهد ، لم تتخيل للحظة لو أن طفليها كانا هنا لو لم يكونوا في الجبل. شعرت حقيقة بهول ما حدث وانهارت باكيةً.

عند الساعة التاسعة مساءً ، تتلقى كارمن اتصالاً من جامعة البلمند حيث تعمل للإستفسار حول مكان العميد لأنهم لم يجدوه بعد. تتذكر كارمن جيداً كيف خرجت من المنزل تبحث عنه في المستشفيات "وصلتُ الى مستشفى اوتيل ديو لكنه لم يكن هناك. توجهت إلى جبل لبنان لأعرف أنه في غرفة العمليات يخضع للجراحة. وفي اليوم التالي، اكتشفت ان كليتي متضررة وبعد اجراء الفحوص تبين أن كوع يدي مكسور وتمزق الوتر في قدمي وأن كليتي متأذية وممتلئة بالدم."

لكن كارمن لم يردعها وضعها الصحي من النزول إلى ساحة الشهداء في اليوم نفسه لتقديم المساعدة للمحتاجين وتأمين الأدوية وتوصيل الطعام وتضميد الجراح وغيرها من الخدمات. بقيت كارمن تساعد على ساق ويد واحدة في تلك الخيمة، لم تفكر سوى بالصمود وعدم الاستسلام. تشدد في حديثها "ليس عملاً بطولياً ، بالنسبة لي هذه الخيمة كانت المكان الوحيد الذي جعلني استوعب كيف يمكن ان يفعل بنا كل ذلك وأستمر في الحياة. وكنتُ سأكون موجوعة أكثر في حال بقيتُ في المنزل".

كانت كارمن تريد ايصال رسالة لهذه السلطة المجرمة كما تقول "مهما فعلتهم لن تسطيعوا النيل من عزيمتنا. انا لا اعتبرسلوكي بطولي بقدر ما هو ناتج عن غضب لما حصل والاصرار على الوقوف والصمود. هو غريزة البقاء وحب الحياة في وجه الموت. هناك صور مطبوعة في ذاكرتي لا يمكن نسيانها، ومع اننا شهدنا على حرب تموز لكن لم أشعر بهذا الانتهاك الذي حصل في 4 آب، ربما لأن الضربة كانت خارجية وظروف مغايرة لما جرى في جريمة المرفأ والغدر جاء من أصحاب البيت".

بالنسبة لكارمن 4 آب "غيّر وجه التاريخ والحياة لشريحة كبيرة من اللبنانيين، لقد كسرني الانفجار في الصميم. ما زلتُ أقف في ذلك النهار المشؤوم، لقد شاركتُ في وجع كثيرين على الأرض لأنه لا يحق لأحد أن يفعل بنا ذلك".