أطفال لبنان في الأزمة: نزوح باتّجاه مراكز الرعاية الصحيّة وتحذير من عودة فيروسات قد اختفت!

كتبت ليلي جرجس في النهار:

"اضطرت فاطمة إلى بيع مجوهراتها لتأمين تكلفة طبابة ولدَيها، ولم تكن متفرّدة في ذلك، فهناك مئاتٌ غيرها فعلنَ الأمر نفسه بعد أن اشتدّت الأزمة الاقتصادية في لبنان، وباتت المعاينة الطبيّة تفوق قدرة كثيرين على دفع تكلفتها، وبات ثمن اللَقاح الواحد يُساوي مليونين ونصف مليون ليرة لبنانية.
 
عندما حذّرت منظّمة "اليونيسف" في تقرير لها بعنوان "تفاقم الأزمة الصحيّة للأطفال في لبنان" حول انخفاض معدّلات التلقيح الروتينيّ في لبنان للأطفال بنسبة 31 في المئة، لم يكن ذلك من باب التهويل إنما انطلاقاً من حرصها على صحّة الأطفال والمخاطر الناجمة عن تفويت هذه اللقاحات التي من شأنها أن تُعيد ظهور وانتشار فيروسات قد اختفت.
 
اليومَ، يتخوّف الأطباء من تحوّل هذا الهاجس إلى واقع صحيّ سيّئ مع انتشار وظهور فيروسات عديدة بين الأطفال. وقد شهدت المناطق الشماليّة، ومنها طرابلس والبقاع، انتشاراً محدوداً لمرض اليرقان في ظلّ عدم قدرة كثيرين على تحمّل تكاليف العلاجات أو حتى الذّهاب إلى المستشفى.
 
تعترف فاطمة، وهي أمّ لولدين (الصبي 3 سنوات – الفتاة سنة واحدة) أن تكاليف الطبابة في لبنان باتت تفوق قدرة فئة كبيرة من اللبنانيين. تقول لـ"النهار": "لم يعد بمقدوري متابعتهم صحيّاً في عيادة خاصّة كما كنت أفعل قبل الأزمة، فأتعاب الطبيب وتكلفة اللقاحات باهظة جداً، في حين أنّ وضعنا المالي يتطوّر سلباً من سيّئ إلى أسوأ"
 
 
عاجزة عن دفع التكاليف
لم يتغيّر ثمن اللقاح بالدولار عمّا كان عليه قبل الأزمة. لكن انهيار الليرة اللبنانية والصعود الجنونيّ للدولار جعل تكلفة اللقاح الواحد تتراوح ما بين 50$ و100$، أو ما يوازي مليوناً ونصف المليون ليرة لبنانية، وصولاً إلى 3 ملايين ليرة لبنانية.
 
وتشير فاطمة إلى أن ابنتها "البالغة من العمر سنة لم تتلقَّ سوى لقاحين، وأن عليها 8 لقاحات أخرى ضروريّة". وتُضيف: "اضطررتُ إلى بيع مجوهراتي حتى أتمكّن من متابعتهم صحيّاً، خصوصاً أنّ ابني يعاني من مرض الربو، وهو بحاجة إلى متابعة وعلاج لمدى الحياة".
تؤكّد فاطمة أنّها تلجأ إلى هذه المراكز ليس فقط من أجل التلقيح وإنّما من أجل المعاينة الطبيّة، لأنّها عاجزة عن تحمّل تكاليف المعاينة في العيادات الخاصّة.
قصة فاطمة هي عينة من قصص كثيرة شبيهة للنزوح الكبير والنقلة النوعيّة من العيادات الخاصّة إلى مراكز الرعاية الصحيّة نتيجة التكلفة المرتفعة، وعجز قسم كبير عن الاستمرار بالطبابة في القطاع الخاص.
 

نسب التراجع بالأرقام
تؤكّد منظّمة اليونيسف في حديث مع "النهار" أنّ معدّل التلقيح الروتينيّ في لبنان انخفض من 83% في العام 2019 إلى 67% في العام 2021 لثلاث جرعات من اللقاح الخماسيّ التكافؤ الذي يُعدّ مؤشّراً عالمياً ضمن عمليّة التحصين المناعيّ.
 
كذلك انخفضت تغطية الحصول على لقاح الحصبة - الجرعة الأولى من 82% في العام 2019 إلى 67% في العام 2021، في حين بلغت نسبة تلقّي الجرعتين من لقاح الحصبة 59% فقط.
 
"هذا الواقع الصحيّ لا يُمكن إنكاره أو إخفاؤه، إذ تشهد العيادات الطبيّة تراجعاً ملحوظاً في الإقبال على التلقيح لأسباب كثيرة، في مقدّمها الأزمة الاقتصادية، وانقطاع اللقاحات وعدم توافرها بالكميّة الكبيرة كما كانت سابقاً". هذا ما يشدّد عليه رئيس قسم طب الأطفال في المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية -مستشفى رزق الدكتور جيرار واكيم لـ"النهار".

هاجس انتشار جديد؟

برأي واكيم أنه " لم يعد بمقدور قسم من الأهالي تحمّل تكلفة التلقيح، إذ تتراوح تكلفة اللقاح الواحد بين 50 إلى 200$، ناهيك بأجرة الطبيب. وبالتالي، لم يكن أمام الأهل خيارات كثيرة؛ فبعضهم اضطرّ إلى تأجيل اللقاحات إلى حين تسيير أموره، فيما البعض الآخر قرّر التوقّف عن تطعيم أولاده".
 
ولكن واكيم يتخوّف من تداعيات انخفاض معدّلات التلقيح عند الأطفال لأنها "تؤدي إلى انتشار فيروسات في المجتمع قد تُسبب مشكلات صحيّة كبيرة. وما جرى في طرابلس منذ فترة من انتشار لفيروس اليرقان يؤكّد مخاوفنا من انتشار وبائيّ محليّ، والأصعب أنّ اللقاح كان مقطوعاً وغير متوافر؛ لذلك نتخوّف ممّا قد تؤول إليه الأمور إذا استمرّ تراجع معدلات التلقيح عند الأطفال".
 

ما الذي يُثير القلق؟
بالعودة إلى الأرقام، تُشير "اليونيسف" إلى ارتفاع نسبة الأطفال الذين لم يتمكّنوا من الحصول على الرعاية الصحيّة التي يحتاجونها من 28 إلى 34% خلال الفترة الممتدة من نيسان إلى تشرين الأول 2021. كذلك أظهرت دراسة أخرى أن أكثر من 50% من الأسر لم تتمكّن من الحصول على الأدوية التي هي بحاجة إليها".
 
الهجرة الطبيّة، القيود المفروضة على استيراد الأدوية والمستلزمات الطبيّة، وعدم قدرة العائلات على تحمل تكلفة النقل للتوجّه إلى أحد #مراكز الرعاية الصحية، كلّها عوامل وأسباب فرضت تأثيرها على وضع الأطفال في لبنان، وجعلتهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض وسوء التغذية، وفي بعض الحالات إلى الوفاة.
 
ولكن ما يُثير القلق وفق "اليونيسف" يتمثل "بارتفاع نسبة الأطفال، الذين لم يتلقوا أيّ جرعة من أيّ لقاح، من 4 في المئة في العام 2019 إلى 12 في المئة في العام 2021. وهذا يعني أنّه من بين 100 ألف مولود متوقّع في لبنان، هناك نحو 12 ألف طفل لم يتلقّوا أيّ لقاح في العام 2021.
 
في مواجهة الأمراض
بالإضافة إلى ذلك، يفتقر كلّ طفل ثالث في لبنان إلى جرعة واحدة من لقاح الحصبة؛ الأمر الذي يؤدّي إلى مخاطر صحيّة كبيرة أو إلى تفشّي مرض الحصبة. وهناك بعض الأطفال الذين تلقّوا جرعتهم الأولى، ولكنّهم لم يتلقّوا الجرعات الأخرى، ممّا يؤدّي إلى حماية مجتزأة أو حماية غير كافية. من المهمّ أن نعرف أن الأطفال الذين لا يحصلون على لقاحاتهم الرئيسيّة الروتينية هم عرضة للإصابة بأمراض يُمكن الوقاية منها، وقد تكون خطيرة مثل الحصبة، الخناق والالتهاب الرئويّ، والتي من شأنها أن تُسبّب تفشّياً فيروسيّاً في البلد.
 
كذلك جدّدت اليونيسف التعاون القائم مع الصليب الأحمر اللبنانيّ لسدّ الفجوة التي تحول دون وصول الأطفال إلى اللقاحات الأساسيّة، والعمل على تحصين أكثر من 150 ألف طفل، ممّن لم يحصلوا على اللقاحات على مستوى المجتمع المحليّ.
 
 
قبل وبعد الأزمة
سامر أب لولدين (ابنة - 4 سنوات، وصبّي عمره سنتين) لم يجد أمامه سوى الانتقال من القطاع الخاص إلى القطاع العام لتأمين الطبابة لهما. يعرف جيّداً أن ما قبل الأزمة ليس كما بعدها، وأن تكلفة المعاينة الطبيّة لم تكن تتعدّى الـ50$ (75 ألف ليرة لبنانية آنذاك). يقول لـ"النهار": كنتُ أدفع 75 ألف ليرة مقابل كلّ معاينة طبيّة، في حين لم يتخطَّ ثمن اللقاح 100 ألف ليرة. لقد تلقّت ابنتي كلّ اللقاحات الرئيسيّة والاختياريّة في وقتها ولم اضطرّ إلى تأجيل أيّ منها، حتى كنتُ أتوجّه إلى الطبيب عند كلّ عارض صحيّ بسيط أو ارتفاع في الحرارة".
 
كانت زيارة سامر مع ابنته إلى طبيب الأطفال دوريّة وبانتظام. لكن ابنه الذي ولد في العام 2021، أي في بداية الأزمة الاقتصادية، لم ينل العناية اللازمة. يتذكّر سامر جيّداً أن "معاينة الطبيب أصبحت 150 ألف في حين وصلت تكلفة المعاينة الطبية مع التلقيح إلى 250 ألف ليرة. وبالرغم من الارتفاع البسيط، فإن الأمر بقي مقبولاً إلى أن وصلت المعاينة إلى 600 ألف ليرة، وتكلفة اللقاح الرئيسيّ الإجباري إلى نحو المليون ونصف المليون ليرة".
لم يكن أمام سامر سوى التوجّه إلى مركز الرعاية الصحيّة للتخفيف من العبء والارتفاع الجنونيّ في الأسعار. تلقّى ابنه اللقاحات الضروريّة الأساسيّة مجّاناً في مستوصف في إنطلياس بينما لم يتلقّ أيّاً من اللقاحات الاختياريّة – الإجبارية، لأنّها على نفقة الأهل، وتختلف أسعارها حسب كلّ عيادة أو طبيب، وتتراوح ما بين مليون ونصف المليون، وصولاً إلى 3 ملايين ليرة أو ما يُعادل ذلك بالدولار.
 
 
مسبّبات هذا التراجع
من جهتها، تشرح رئيسة دائرة الرعاية الصحية في وزارة الصحة الدكتورة رندة حمادة لـ"النهار" بأن "أزمة كورونا أثّرت على كلّ الخدمات الصحيّة كما هي حال كلّ الدول لا لبنان فقط. ولأنّ الأنظمة الصحيّة لم تكن جاهزة لمواجهة هذه الجائحة، لم تعد الخدمات الأساسية والضرورية من ضمن أولويات الناس. إن خوف البعض من الذهاب إلى المراكز الصحيّة والعيادات لتلقّي اللقاحات أدّى إلى تراجع كبير في نسبة التلقيح الروتيني، وانخفضت نسبة التلقيح في لبنان إلى ما بين 27 و31% حسب المناطق".
 
وترى حمادة أن "الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كان لها الأثر الأكبر في التطوّر الأخير، وترافقت مع انقطاع اللقاحات في السوق الخاصّة (نتيجة تدنّي الليرة اللبنانية وتعاطي مصرف لبنان مع استيراد الأدوية واللقاحات)، ولم يعد بإمكان الفئة الميسورة، التي بإمكانها دفع ثمن اللقاح في العيادة الخاصّة، الحصول عليه بسبب انقطاعه. كلّ هذه الأسباب توضح سبب تراجع نسبة التلقيح في لبنان والانعكاس السلبي لذلك على الصعيد الوطني".

خليّة نحل
في مركز مار جاورجيوس للرعاية الصحيّة في منطقة "الجديدة"، ينتظر عددٌ كبير دوره في الصّفّ، وعلى الباب الرئيسيّ لـ"الكونتينر"، الذي جُهّز ليكون مركزاً صحيّاً، تقف إحدى الموظّفات للتأكّد من اسم المريض وموعده قبل أن تسمح له بالدخول.
 
هذا المركز أشبه بخليّة نحل، فالعمل لا يتوقّف، العيادات جميعها ممتلئة، الناس تنتظر دورها في غرفة الانتظار، البعض يحمل أولاده، والبعض يحمل ملفاته الطبيّة بتعب. الحرّ شديد، والزحمة أيضاً والكلّ يأمل في إيجاد دوائه.
 
تتحدّث الدكتورة نانسي عساف عن الضغوط الكثيرة التي شهدها هذا المركز، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية، وارتفاع تكلفة المعاينة الطبيّة في العيادات الخاصّة. "ارتفعت نسبة الإقبال إلى المركز 100%، وأصبحنا مقصداً حتى للأشخاص غير القاطنين في المنطقة".
 
 
تسرّب معدّلات اللقاح
ترى عساف أن "الجائحة أدّت بشكل كبير إلى تسرّب في معدّلات التلقيح في لبنان، فالخوف من الذهاب إلى العيادات والمستشفيات في فترة الإغلاق العام دفع كثيرين إلى تأجيل مواعيد التلقيح لأبنائهم، وبالتالي، كان الإقفال مسؤولاً بالدرجة الأولى عن التأخّر في الحصول على اللقاحات، ثمّ انقطاع اللقاحات في القطاع الخاص والأزمة الاقتصادية فزادت الطين بلّة. ولكن الأكيد أنّ هناك بعض الأطفال لم يتلقّوا لقاحاتهم لمدّة سنتين، واليوم يحاولون تلقّي النواقص".
 
صحيح أن هناك تسرّباً في معدّل التلقيح عند الأطفال في لبنان، إلا أنّه يُمكن احتواؤه، وما نخشاه أن تُشكّل الفئة غير الملقحة تهديداً لإنتشار الفيروسات التي اختفت أو تمّت السيطرة عليها في الماضي".
 
الضغوط الكبيرة التي يشهدها هذا المركز يُقابله هدوء كبير لمركز الرعاية الصحية الصحية التابع لبلدية الجديدة، حيث يخلو من الناس والأطباء. وهذا ما يطرح علامات استفهام عن هذا التفاوت في الإقبال والضغط على مركز واحد في حين أن الآخر خالٍ من العاملين والمرضى والأطباء.

5 ملايبن ونصف المليون ثمن لقاح عنق الرحم
يوضح رئيس مركز أبحاث الأمراض الجرثومية في الجامعة الأميركية، الاختصاصي في طبّ الأطفال البروفيسور غسان دبيبو لـ"النهار أن "تكلفة اللقاح تتراوح ما بين مليون ونصف المليون ليرة وصولاً إلى 5 ملايين ونصف المليون ليرة للقاح عنق الرّحم، وهو الأغلى من بين اللقاحات. وقد عمد المركز الطبي بالتعاون مع وزارة الصحة إلى تأمين اللقاحات لتفادي انقطاعها. ولكن ما نخشاه اليوم أن نشهد انتشار أوبئة وفيروسات عند مجموعة الأطفال غير المحصّنين، فيُصبحون عرضة للإصابة بأمراض بعضها قد يكون خطيراً".
 

اللقاحات المؤمّنة من الوزارة
وعن اللقاحات التي تؤمّنها وزارة الصحة، تُشير رئيسة برنامج الرعاية الصحيّة في وزارة الصحّة إلى أن "الوزارة عبر البرنامج الوطنيّ للتلقيح تشتري اللقاحات عبر منظمة "اليونيسف" وفق مواصفات منظمة الصحة العالمية، ويتمّ حفظها بأفضل سلسلة للتبريد. وبسبب الأزمة، دعم الاتحاد الأوروبي لبنان بدفعه جزءاً كبيراً من ثمن هذه اللقاحات لتغطية العجز الذي يعيشه البلد، ولتغطية حاجة الأطفال غير اللبنانيين الموجودين على الأراضي اللبنانية.
 
وتؤمّن الوزارة 11 لقاحاً مجانيّاً:
- شلل الأطفال
- الحصبة
- الحصبة الألمانية
- النكاف
- الخنوق
- الشاهوق (السعال الديكي)
- الكزاز
- الأنفلونزا B
- Hépatite B
- المكوّرة الرئوية (pneumocoque)
- الروتا

ونتيجة ما شهدته العيادات الخاصّة من انقطاع في اللقاحات الأساسيّة، بدأت وزارة الصحة بالتعاون مع 152 طبيب أطفال من القطاع الخاص، ونقابة أطباء الأطفال، والجمعية العمومية لأطباء الأطفال في بيروت والشمال، بتأمين اللقاحات مع البرادات لحفظها في العيادات الخاصّة.