أندون نون وبرمكي.. ضحايا دولة مُجرمة!

رحلوا في غفلةِ عين، بلحظة غدر، بانفجارٍ هائل، بإهمالٍ سلطوي عن قصد أو عن غير قصد، بغدرٍ قبيح سببه اللامبالاة المُعتادة لدى "المسؤولين"، فشاء القدر غير المُقدّر أن يكونوا ضحايا الإجرام العابر للقارّات، في تدميرٍ عابر للمسافات والأرواح، فسقطوا شهداء على مذبح وطنٍ منكوب، تاركين وراءهم قلوبًا محطّمة وأطفالًا يتامى.. من أجل من؟ لكن الأهمّ بسبب من؟ هل سنتجلي الحقيقة؟ هل سيُعاقب المجرمون؟ هل ستنكفئ يد الظلام عن بلاد النور المنهوب؟

رفاقٌ هم ومناضلون. حملوا شعلة لبنان في قلوبهم الدافئة، ونظروا إلى الوطن بوجوههم المُبتسمة، فتضحيتهم لم تقتَصِر على استشهادهم في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بل قاموا بها بتفانٍ، محبّةٍ وإخلاص، في خدمة أسرهم المؤمنة الجميلة، وفي خدمة العائلة اللبنانية الكبيرة، فكانوا بارزين في مجتمعاتهم، محبوبين وناشطين.

 

الأب المتفاني، الزوج الأمين، والجد المتواضع.. البرمكي في خدمة لبنان

ولد أنطوان فارس البرمكي في كنف عائلة ضمّته إلى جانب جوزيف، جورج، جانيت، روزيت، وأيفيت. مُتأهل من السيدة فريال جورج حداد، ولهما ولد وابنتان: روي، نجاة (نينا)، كارول. نشأ وترعرع في بلدته حمانا، حيث تعلّم. مُجاز في التخطيط والتنظيم المدني.

هو ذاك الأب المتفاني، الزوج الأمين، والجد المتواضع رفيق أحفاده، "عاش شابًا ومات شابًا"، صاحب النَخوةِ الدائمة، محب للحياة، كبير في التواضُع، وعظيم في النبل. غدره تفجير المرفأ وهو يبحث عن لقمة عيشه، في دوام عمله في مرفأ بيروت. بعد التفجير الزلزال راحت كارول ابنته تُهاتفه ولكن أحداً لم يُجب، ما من تغطية. لتقرر أن تذهب برفقة زوجها لتتفقد أباها. وفي الطريق تلقى زوجها اتصالاً مفاده أنّ أنطوان قد نُقل مع الجرحى من مستشفى الروم إلى مستشفى المشرق، لدى وصولهما الى المستشفى، باشرت ابنته بالبحث عن أبيها بين الجرحى، ليمسك زوجها بيدها بعد أن تبلّغ خبر وفاة عمه. وبحسب التقرير الطبي، يعود سبب الوفاة إلى شظايا الزجاج التي رست في عنقه. غادر أنطوان الدنيا، لكن اسمه وسيرته العطرة فى قلوب مُحبيه، ومقولته الشهيرة "المصاري مش للتجميع، المصاري للبسط والفرح والحياة"، ليكون قد ترك إرثاً عائلياً، وطنياً وكتائبياً ثميناً، درسًا للرفاق والمحبّين، بحبّ الحياة التي تأبى أن تُكمل إلا بالفرح بالرغم من الحزن.

 

أندون ظُلم.. لكنّه حلّق في آفاق الوطن

كان الرفيق جو أندون موظّفاً في أهراءات القمح في مرفأ بيروت، زميل الرفيق الشهيد جو عقيقي في العمل، ورفيقه في خدمة لبنان، وسطّرت آخر لحظات حياة الشاب المناضل ذو الـ36 عاماً قصّة حزينة من قصص الجريمة، فكان يصوّر الحريق الذي شبّ في العنبر رقم 12. كان على شرفة مبنى إداري مؤّلف من طبقتين، ضمن المرفأ وقبالة العنبر المذكور، يصوّر أكثر من فيديو للحادثة وقد أرسل آخرها لزوجته ميشال عند 6:06 دقائق، أي قبل دقيقتين من الانفجار. وظهر صوته خلال الفيديو يقول "ليك النار، نار"، فيما صوت الاحتكاك الضخم يُسمع في الخلفية.

جو لديه ولدان (4 سنوات، وسنة و5 أشهر)، وتعتقد زوجته "أنه حاول بعدها التراجع والاختباء"، كما تقول في حديثٍ صحفي. محاولات الاتصال به، طوال الساعات التي تلت الانفجار لم تفلح، ما عدا اتصال وحيد عند 12 ليلاً، أي بعد 6 ساعات من الانفجار، "فتح خلاله الخط لمدّة 20 ثانية"، وفق ما تظهره سجلّات الهاتف. وبحسب الزوجة فإن شركة الإتصالات "تاتش" أكّدت أن الاتصال تمّ، وأن الثواني التي فتح خلالها الخط ليست اشتباهاً. وهو ما ترك أملاً لديها بأنه ربما عالق تحت أنقاض المبنى، مع 5 آخرين من رفاقه بينهم جو عقيقي. ليس لديها سوى الأمل، مع كثيرين من أهالي المفقودين، للتعويل على دولة قد ترفع الأنقاض المحيطة بالأهراءات رغم مرور ثلاث ليالٍ على الحادثة. هذه الحادثة تتقاطع مع أمل لدى أهالي المفقود غسان حصروتي، الذين طالبوا باستئجار رافعات على حسابهم للكشف عن مصيره، خصوصاً أن المبنى المشار إليه "فيه دهاليز مبنية من حديد يمكن أن تشكّل شبكة أمان" كما أعلنت شقيقته إيميلي نقلاً عن شهود عيان.

 

أوّل الواصلين.. بطل مشمش "جو نون"

هو الشهيد جو طانيوس نون، بطل بلدة مشمش الجبيلية، شهيد بطل من أبطال فوج إطفاء بيروت، أُرسل إلى حتفه في مُحاولةٍ بائسة لإطفاء حريق مرفأ بيروت مساء الرابع من آب 2020، الحريق الذي سبق أكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية، فرحل جو بالجسد لتروي دماؤه تراب بيروت الشاهدة على معاصي سلطةٍ سياسيةٍ جلّ ما قامت به بحقّ أبطالنا، إمّا القتل أو التشريد.

عُثر على أشلاء البطل جو بعد أيّام من الإنفجار، بعد أن انقطع الإتّصال به بعد أن صدرت فحوصات الـ DNA للجثث المنتشلة، والجدير بالذكر أن جو كان أول الواصلين الى مكان الحريق قبل الإنفجار الرهيب الذي دمّر العاصمة واستشهد فيه المئات وجرح الآلاف.

لن تجفّ دموع أهالي الضحايا. لن تتوقف دموع الأطفال عن الإنهمار حزناً على أهلهم الشهداء. لن تغمض عيون الأمهات. لن تستكين قلوب الآباء. لن ترتاح الأرامل ولن تلتئم العائلات كما كانت تفعل.

إحقاق الحق لن يُعيد الضحايا. الوصول إلى العدالة في دولة "اللاعدالة" من شأنه أن يمنع تكرار القتل، الإجرام والتدمير، من شأنه الثأر لمواطنين بائسين، الأمل قد فُقِد فعلاً بالسلطات الرسمية، وكذلك أرواح أحبّائنا فُقدت من بيننا إلى ربوع النعيم السرمدي، لكن الحقيقة لا بُدّ أن تنجلي ولو بعد حين.. إن غداً لعدالته، قريب!