إجراءات صارمة للتحويلات المالية فوق ألف دولار... لمنع انزلاق البلاد نحو "اللائحة السوداء"

في ظل الضغوط الدولية المتزايدة والمرحلة المالية الحساسة التي يمر بها لبنان، اتخذ مصرف لبنان خطوة حاسمة تعد من الأكثر تشددا منذ أعوام، في محاولة جدية للفصل بين الاقتصاد الشرعي وتدفقات الأموال غير المشروعة، وإرسال رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي بأن البلاد مستعدة لطي صفحة الفوضى المالية قبل فوات الأوان. إذ ان وجود لبنان على "اللائحة الرمادية" لمجموعة العمل المالي (FATF) لم يعد تصنيفا تقنيا فحسب، بل أصبح عاملا يهدد ما تبقى من علاقاته المالية مع العالم، ويضع قطاعه المصرفي تحت رقابة صارمة لم تعد تحتمل التساهل.

الإجراءات الجديدة، وإن بدت قاسية على المؤسسات المالية غير المصرفية، تعتبر خيارا اضطراريا لمنع انزلاق البلاد نحو "اللائحة السوداء" وما تحمله من عزلة مالية شبه كاملة. وبين الضغوط الدولية وضرورة الامتثال، يسعى مصرف لبنان إلى إعادة بناء الثقة الدولية خطوة بخطوة عبر سلسلة إجراءات تعيد الانضباط إلى قطاع لطالما كان منفذا للتهرب والعمليات غير الموثقة.
فقد أعلن مصرف لبنان عن تطبيق حزمة من الإجراءات الاحترازية تستهدف المؤسسات المالية غير المصرفية، واصفا إياها بأنها "الخطوة الأولى ضمن سلسلة إجراءات لتعزيز بيئة الامتثال في القطاع المالي". ويأتي هذا بعد زيارة وفد من وزارة الخزانة الأميركية وفريق مكافحة الإرهاب إلى بيروت، حيث شدد على ضبط عمليات الصرافة والتحويل، وخفض الحد الأدنى للتصريح المالي من 10 آلاف دولار إلى ألف دولار.

تشمل الإجراءات الجديدة جميع المؤسسات المالية غير المصرفية مثل: شركات تحويل الأموال، شركات الصرافة، المؤسسات التي تتعامل بالنقد الأجنبي، مقدمو خدمات الدفع والتحويل الإلكتروني، ومشغلو المحافظ الإلكترونية. وأبرز ما جاء في التعميم هو فرض تسجيل وتوثيق جميع العمليات النقدية التي تساوي أو تتجاوز 1000 دولار عبر "النموذج RF1"، وإرسال البيانات خلال 48 ساعة إلى مصرف لبنان عبر نظام إلكتروني مشفر، على أن تتابع لجنة الرقابة على المصارف الالتزام بالتعميم مع إمكان اتخاذ إجراءات تصحيحية عند الحاجة. وحدد المصرف المهل الزمنية الآتية:

1 كانون الأول 2025: اعتماد الجداول الخاصة بالعمليات النقدية بقيمة 1000 دولار وما فوق، وبدء اعتماد الملاحق الخاصة بالعملاء الجدد.

6 أشهر من صدور القرار: تطبيق الملاحق الخاصة بالعملاء الحاليين.

مصادر في مصرف لبنان أكدت أن هذه المعايير "حتمية لتجنب الانزلاق نحو اللائحة السوداء"، مشيرة إلى أن الدول ذات الأنظمة المالية المتقدمة، مثل الإمارات، تعتمد تدقيقا أشد يشمل الهوية والتوثيق والكاميرات. كما كشف المصدر عن إجراءات إضافية قريبة للمصارف التجارية، تشمل تشديد معايير "اعرف عميلك" KYC والتدقيق في التحويلات، بما يؤسس لمراحل متعددة من الرقابة لرصد أي حركة مالية مشبوهة.

إجراءات لإخراج لبنان من اللائحة الرمادية

الخبير المالي نسيب غبريل أكد أن "التعميم الأخير لضبط التحويلات المالية فوق ألف دولار يأتي ضمن جهود إزالة لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي بعد إدراجه في تشرين الأول 2024 بسبب ثغرات في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لا سيما نتيجة الاقتصاد الموازي والتهرب الضريبي والاتجار بالممنوعات". وحددت المجموعة عشر إجراءات يجب تنفيذها، كما أدرج الاتحاد الأوروبي لبنان في حزيران الماضي على لائحة الدول عالية المخاطر.

وأشار غبريل إلى أن السلطات اللبنانية باشرت تنفيذ الإجراءات، فأصدر مصرف لبنان أربعة تعاميم لتنظيم شركات تحويل الأموال والمحافظ الإلكترونية، ومنع التعامل مع جهات خاضعة لعقوبات، وتطبيق "اعرف عميلك" على التحويلات الكبيرة. لكنه أكد أن إزالة لبنان من اللائحة الرمادية تتطلب أيضا دور القضاء، وزارة العدل، القوى الأمنية، السلطة التنفيذية، ووزارة المالية.
وفي هذا السياق، أصدرت وزارة العدل تعليمات للكتّاب العدل لتعزيز الامتثال، بينما تقوم القوى الأمنية بضبط كميات كبيرة من الممنوعات وإقفال معامل الكبتاغون. وأوضح غبريل أن مجموعة العمل المالي تركز على القطاع المالي غير المشرع وغير المرخص، الذي لا يخضع لرقابة لجنة الرقابة على المصارف، مثل الصرافين غير المرخصين والجمعيات التي تعمل كمؤسسات مالية وبعض شركات تحويل الأموال التي تتجاوز نطاق ترخيصها. وقد قدّرت "إيرنست أند يونغ" حجم الاقتصاد الموازي في لبنان بنحو 20% من الناتج المحلي، أي نحو 6 مليارات دولار.

ورجح غبريل بقاء لبنان على اللائحة الرمادية حتى الامتثال الكامل، مؤكدا أن "إزالة اسم لبنان من اللائحة الرمادية ومن لائحة الاتحاد الأوروبي للبلدان عالية المخاطر يجب أن تبقى أولوية وطنية، مع ضرورة تنسيق الجهود بين المصرف المركزي، لجنة الرقابة على المصارف، القوى الأمنية، القضاء وسائر السلطات لضمان الامتثال الكامل واستكمال العمل في الاتجاه الصحيح".

وختم بالقول إن "إزالة لبنان عن اللائحتين ستساهم في تدفق رؤوس المال، وتعكس جدية السلطات اللبنانية بعدم السماح بأن يكون لبنان ممرا لتسهيل العمليات في اقتصاد الظل، كما ستحسن العلاقات بين المصارف اللبنانية والمؤسسات المالية المرخصة وبين المصارف المراسلة والخارج عموم".