المصدر: المدن
الكاتب: فتات عيّاد
الثلاثاء 14 شباط 2023 15:40:33
لم يكن ينقص اللبنانيين العائمين على سلسلة فوالق سياسية واقتصادية وأمنية، وكوارث وأزمات من صنع الطبقة السياسية، هم الذين لم يتعافوا من تداعيات انفجار مرفأ بيروت بعد، إلا زلزال تركيا-سوريا المدمر، ليذكّرهم بأنهم يعيشون في منطقة معرضة للكوارث الطبيعية، في بلد غير مجهز لأي نوع من الكوارث، وتكتفي سلطاته بالهيئة العليا للإغاثة كاستجابة للكوارث بعد حصولها، من دون أدنى خطة استباقية لإدارة الكوارث، والحدّ منها.
وفي وقت تتسابق الدول لاستخدام تقنية الإنذار المسبق من الزلازل قبل حدوثها لإنقاذ مواطنيها، فشلت جميع الإنذارات الإنسانية في لبنان للدفع نحو إقرار هيئة إدارة الكوارث، جراء الاختلاف على تبعيتها لرئاسة الجمهورية أو الحكومة.
هذه المقاربة الطائفية على حساب أرواح اللبنانيين، تطيل من عمر الهيئة العليا للإغاثة، كهيئة وحيدة معنية بالإغاثة، وهي، للمفارقة، ثالث جهة محظية بسلف الخزينة بعد وزارتي المال والطاقة منذ التسعينيات، فيما نفقاتها غير خاضعة للرقابة. ودوماً، على حساب المال العامّ اللبنانيّ.
كوارث طبيعية وغير طبيعية
ولطالما اعتبرت الكوارث في لبنان فرصة للحكام لاستجداء الأموال من الخارج. إلا أنّ هذه العقلية تصطدم اليوم بمساعدات دولية مشروطة من الخارج، ووعي اللبنانيين بأهمية الرؤية الاستباقية للكوارث، هم الذين كان بينهم وبين الموت درجات على مقياس ريختر عند حصول زلزال تركيا، فيما غياب جهة رسمية لإدارة الكوارث لا يزيدهم إلا هلعاً.
والحال أنّ خوف اللبنانيين مبرر، فالتجربة اللبنانية أثبتت أن لا جهوزية لدى الدولة إلا لشحذ الدعم الدولي بعد وقوع الكارثة. وفي نموذج احتراق الغابات عام 2019، تتجلى العقلية الطائفية بعرقلة تعيين حراس للأحراج قبل الكارثة وبعدها. أما سوء التخطيط فيتجلّى بعدم استخدام لبنان طائرات إطفاء الحرائق الثلاث "سيكورسكي" جراء عدم إجراء الصيانة الدورية، ما جعل الدولة اللبنانية تستعين بقبرص، لإطفاء حرائقها!
أما انفجار مرفأ بيروت، فأظهر ضعف إمكانيات الدولة اللوجستية والتنسيقية والمالية، في بلد ينطوي على جملة مخاطر أساسية: من الهزات الأرضية والزلازل، إلى الفيضانات والسيول والمد البحري (تسونامي)، وصولاً لحرائق الغابات وانزلاقات التربة والحروب والنزاعات المسلحة.
والحال أنّ مشروع إقرار هيئة إدارة الكوارث تتابعه لجنة الاشغال العامة والنقل منذ العام 2003، بعد حصول سيول تسببت بطوفانات وأضرار جسيمة في عدد من المناطق اللبنانية وقتها. ومشروع القانون الذي اقترحه النائب الراحل بيار الجميل، وطوره لاحقاً رئيس لجنة الاشغال محمد قباني، وصل للجان المشتركة، لكنه لم يبصر النور حتى يومنا هذا، فيما لم تشفع التحذيرات من خطر الزلازل في لبنان في أوقات سابقة، لإقراره.
ولبنان الذي شهد سلسلة كوارث محلية، لم يتعظ مجلسه النيابي من خطر الزلازل بعد زلزال اليابان عام 2013. فهل تكون كارثة تركيا وسوريا -الأقرب جغرافياً- دافعاً للتحرك على قاعدة أنه "ما متت بس شفت مين مات؟"!
منيمنة: للدفع نحو مأسسة الهيئة
ومشروع قانون إنشاء "هيئة إدارة الكوارث" علق لسنوات في أدراج مجلس النواب، ليس لشيء سوى للاختلاف بين ربط الهيئة برئاسة الوزراء أو رئاسة الجمهورية. تعطيل، نجم عنه غياب التخطيط المسبق للكوارث في لبنان، وترك اللبنانيين لمصائرهم، ولهيئة الإغاثة بعد حصول الكارثة!
النائب ابراهيم منيمنة، كان أول من علّقوا على ضرورة إقرار هيئة إدارة الكوارث إثر زلزال تركيا. وفي حديثه لـ"المدن"، حذّر من مغبة الاستمرار بأخذ البلاد رهينة المخاطرة بتغييب هيئة لإدارة الكوارث، في بلد مهدد بأنواع عدة من الكوارث من الحرائق إلى الزلازل والفيضانات وغيرها.
والمطلوب برأيه إقرار قانون هيئة لإدارة الكوارث، لتكون قادرة على وضع رؤية كاملة وسيناريوهات محتملة للتعامل مع الكوارث على أنواعها، ما يعكس بدوره وضوحا في المسؤوليات الملقاة عليها. إذ أنّ تعريفها بالقانون ومأسستها يحمّلانها مسؤوليات واضحة، تسمح بتفعيل آليات المحاسبة في حال وقوع تقصير بإدارة الكارثة، أو عدم التجاوب بالشكل المطلوب، أو في حال فاق عدد الضحايا المتوقع.
أما اللجنة الوزارية الحالية لإدارة الكوارث، فيلفت منيمنة إلى أن لا صلاحيات قانونية كافية لديها. والجيش والدفاع المدني يتحركان عند الكوارث بطبيعة الحال، لكن هذا لا يلغي ضرورة تشكيل إطار رسمي لهيئة خاصة بالكوارث، تتحمل مسؤولياتها بالقانون عند حصول الكارثة، وتخطط للتعامل معها قبل حدوثها.
من هنا، تأتي الحاجة للهيئة المناط بها ثلاث مهام أساسية هي: التخطيط لإدارة الكوارث، وإدارة الكوارث بالفعل عند حدوثها، وعملية الإغاثة، ما يعني حكما شمول جميع الوزارات المعنية وأعلى درجات التنسيق فيما بينها لضمان تجاوب سريع مع الكوارث.
أما كلفة عدم إقرار الهيئة حتى اليوم فـ"باهظة جداً"، ويدفعها اللبنانيون أرواحاً وضحايا، يقول منيمنة، ليعد بدوره بـ"أننا سنقوم بالخطوات اللازمة للدفع باتجاه اقتراح قانون هيئة إدارة الكوارث لإقراره في لجنة الأشغال العامة".
"لجنة التنسيق": نواة بانتظار المأسسة
يبدو وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين أكثر تفاؤلاً حيال وجود خطط استباقية في لبنان لإدارة الكوارث. فلجنة تنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات (أنشئت بمرسوم حكومي عام 2010 وطرأت عليها تعديلات لاحقاً)، تعمل منذ سنوات، وفيها غرف عمليات، وهي أعدت عدة سيناريوهات للزلازل والحرائق والكوارث وقامت بعدة عمليات محاكاة للكوارث.
وبرأيه، فاللجنة قد تكون نواة لهيئة إدارة الكوارث، فالقاعدة موجودة وينقصها إقرار مشروع قانون وتحضير مؤسساتي وتطوير لتعمل بشكل احترافي.
ويثني ياسين على "خطة الاستجابة الوطنية خلال الكوارث والأزمات 2012-2017، الموضوعة من قبل اللجنة، لافتاً إلى "توزيع الأدوار بوضوح على الجهات المعنية". ما يفرض تنسيقاً فائقاً بين الوزارات واستجابة سريعة للكارثة، لكنه لا ينكر في الوقت نفسه، أن هناك مكامن ضعف في اللجنة، أبرزها عدم تفرغ المنضمين لها من ضباط وإداريين لإطار يعنى حصراً بالكوارث.
وتلحظ اللجنة الخطط على المستوى المركزي، والمستويات المحلية. في السياق، يلفت ياسين إلى لجوء بعض المناطق اللبنانية بالفعل لاستحداث غرف عمليات كطرابلس وصيدا وجبيل.
لكنّ التخطيط لإدارة الكوارث، يبقى موجوداً على الورق وحسب، طالما أن التطبيق يفتقر للموارد البشرية والمالية. في السياق، يعطي ياسين مثالاً عملياً: فوزارة الشؤون مثلاً من مسؤوليتها تأمين مراكز إيواء في حالات الكوارث، فيما وزارة الصحة تؤمن مستشفيات ميدانية، لكنّ الوضع المالي والإداري الحرج للمؤسسات الرسمية، هو عائق أساسي بوجه الخطط الاستباقية، وهذا ينطبق أيضاً على ملف الدفاع المدني، وهو عنصر أساس في مواجهة الكوارث عند حدوثها.
الهيئة العليا للإغاثة: لا رقابة
ومع عدم إقرار هيئة لإدارة الكوارث، وعدم حصول لجنة التنسيق الوزارية على صلاحيات كاملة، لعل المستفيد الأول هو الهيئة العليا للإغاثة، المسؤولة عن أعمال الإغاثة بعد وقوع الكوارث، والتي ترصد لها أموال طائلة على شكل سندات خزينة، قدّرها تقرير لديوان المحاسبة عام 2018، بمبلغ 1,164,088,662,500 ليرة لبنانية، حصيلة سندات خزينة بين عامي 1995 و2018.
والجدير ذكره أن لا إيرادات للهيئة كمؤسسة قائمة بنفسها، وهي تنفق من سلف الخزينة بالدرجة الأولى، ومن هبات ممنوحة لها إثر كوارث بعينها، كحرب تموز 2006.
والهيئة التي تساوت نفقاتها عام 2017 مع نفقات 6 وزارات لبنانية بمبلغ 69.7 مليار ليرة، تنضم إلى الصناديق الثلاث المحظية الأخرى التي قامت إثر الحرب اللبنانية: مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وصندوق المهجّرين.
وتتبع الهيئة مباشرة لرئاسة الحكومة، ومن أبرز المهام الموكلة إليها إدارة شؤون الكوارث على مختلف أنواعها، وتوزيع الهبات. لكنها عملياً، بوابة كبيرة للهدر، وانعدام الشفافية. فهي غير خاضعة للرقابة، إذ لا تمر تلزيماتها عبر ديوان المحاسبة، وذلك بحجّة طابع العجلة الذي يسري على أعمالها.
لكن في الممارسة، تسلّمت الهيئة عشرات المشاريع التي لا تنطبق عليها صفة العجلة، لا بل وتدخل في صلاحيات وزارات أخرى، في تهرّب صريح من الرقابة على نفقاتها.
ولعلّ تحويل انهيار نفق شكا "ككارثة طبيعية" للهيئة العليا للإغاثة خير مثال، سواء في تعدي الهيئة على صلاحيات وزارات أخرى، أو عدم إنجازها مهام عدة موكلة إليها، مهما بلغت صفة "العجلة" فيها.
المبادرات لا تحلّ مكان الدولة
و"صيت" الهيئة العليا للإغاثة مع الناجين من الكوارث على مستوى التعويضات المصروفة "سابقها". فكل كارثة تحصل في البلاد، تسلم للهيئة أعمال الإغاثة فيها، أعمال قد تلقى مصير الشيكات التي وزعتها الهيئة لضحايا انفجار التليل في عكار عام 2021، ولم يقدروا على صرفها!
وبعد زلزال تركيا-سوريا الأخير، أعطيت مهمة إجراء المسوحات للأبنية في لبنان للهيئة العليا للإغاثة. في السياق، يقول ياسين "لا شك بأن لا قدرة لهيئة الإغاثة على القيام بالمسح. إذ لا فريق تقنياً لديها. من هنا، لحظت الحكومة التعاون مع البلديات والأجهزة الأمنية ونقابتي المهندسين في بيروت والشمال. لكنّ السؤال الملحّ اليوم هو ماذا نفعل بالمباني المتصدعة بعد إجراء المسوحات، في ظل انهيار الدولة وشح التمويل الدولي للبنان.
أما منيمنة، الذي أطلق مبادرة مع عدد من المهندسين وبالتنسيق مع نقابة المهندسين في بيروت، لإجراء مسوحات على المنازل التي يخشى أصحابها من تصدعات بعد الزلزال، فيوضح أننا نجمع المعلومات التي سنقدمها للجهات الرسمية لتتصرف بدورها وتعلن عن المباني غير الصالحة للسكن، لافتاً إلى أن هناك إقبالاً كبيراً من اللبنانيين على المبادرة، نتيجة خوفهم من تصدع مبانيهم بعد زلزال تركيا.
وعملياً، تنتفي الحاجة لهيئة الإغاثة بعد إقرار هيئة إدارة الكوارث في المجلس النيابي. لكن إلى ذلك الحين، فاللبنانيون ينامون خائفين على أرواحهم. أما الدولة اللبنانية، فقلبها ليس على البشر ولا حتى على الحجر، بل على المرجعية السياسية التي ستحظى بإدارة "هيئة إدارة الكوارث"، وهذه بحدّ ذاتها، كارثة!