المصدر: وكالة الأنباء المركزية
الخميس 22 شباط 2024 17:10:38
فيما تكرّ سبحة الإضرابات في الوزارات والإدارات العامة في الدولة، تنشر "المركزية" دراسة للمستشار الاقتصادي لرئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور سمير ضاهر بعنوان "إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة، وترشيد نفقات الدولة توأمان.. إنما منفصلان" حيث يعتبر ضاهر أن "الكلام عن إصلاح القطاع العام يتطلب مزيداً من الوضوحً والدقّةً في ما يتعلّق بأعداد "موظّفي الدولة" ووقعهم على الخزينة، إذ توحي الارقام المتداولة عن العدد (قرابة ٣٤٠ ألفاً) لِكُلّ مَن يتقاضى أجراً من المال العام، من دون التمييز بين الفئات والاسلاك، أن ورشةَ إصلاح وترشيد وتفعيل القطاع العام عصِيّةٌ عن الحلّ. ذلك استنتاجٌ لا يَمُتُّ إلى الواقعِ بِصلة، فالإصلاح في متناول اليد".
وهنا نَصّ الدراسة:
١. تكلفة مرتَّبات القطاع العام مرتفعة جداً نسبةً للمعايير المألوفة دولياً. ففي لبنان على مرِّ السنين، شكّل مجموع رواتب وتعويضات القطاع العام من موظفي الخدمة الفعلية والمتقاعدين ــ ويقارب مجموع عددهم ٣٤٠ ألفاً ــ نحو ٤٠٪ من إجمالي نفقات الموازنة، الأمر الذي شكَّلَ عبئاً فادحاً على مالية الدولة والاقتصاد ككُلّ.
٢. الموظفون في الخدمة الفعلية - العدد والاسلاك. يناهز العدد مائتين وعشرة آلافاً (٢١٠،٠٠٠) لمجموع الاسلاك العسكرية والأمنية، والإدارة المدنية على المستويَيْن المركزي والبلدي، والمؤسسات العامة، والتربية، والسلك القضائي. وهذا رقمٌ مرتفع للغاية في بلد يبلغ عدد مواطنيه المقيمين أربعة ملايين. ويتوزع العاملون على النحو التالي:
(أ) - مائة وعشرون ألفاً (١٢٠،٠٠٠) من عسكريين وأمنيين
(ب) - اثنان وتسعون ألف (٩٢،٠٠٠) موظف مدني عبر مختلف الفئات التعاقدية (ملاك، مؤقتون، مياومون،...) منهم: (١) خمسون ألفاً (٥٠،٠٠٠) في التعليم العام؛ (٢) خمسة وعشرون ألفاً (٢٥،٠٠٠) في الإدارات العامة (الوزارات،...)؛ (٣) عشرون ألفاً (٢٠،٠٠٠) في المؤسسات العامة؛ (٤) ألفان (٢،٠٠٠) في البلديات؛ و (٥) ألفاً (١،٠٠٠) في السلك القضائي. (تبعاً لتعداد مجلس الخدمة المدنية في جميع المؤسسات التابعة لإشرافه.)
٣. المتقاعدون - العدد والتكلفة. هناك مائة وعشرون ألف (١٢٠،٠٠٠) متقاعد – سبعون بالمائة منهم، أو أربعة وثمانون الفاً (٨٤،٠٠٠)، من متقاعدي الاسلاك غير المدنية. ويتمتع متقاعدو القطاع العام بنظام معاشات مُغْرٍ قلّ مثيلُه في سائر البلدان. ويعتمد نظام التقاعد على مبدأ "الدفع الجاري" حيث لا تُستَثمَر في الاسواقِ المالية مساهماتُ الموظفين نحو معاشهم التقاعدي خلال سنوات الخدمة في "صندوق تقاعد" مستقِلّ عن الخزينة، بل تندرج مساهماتُهم ضمن الإيرادات الحكومية. جرّاء ذلك تبقى المعاشات التقاعدية جزءًا من نفقات الموازنة حيث استنزفت عبر السنين قرابة ٤٠٪ من إجمالي رواتب وتعويضات القطاع العام. لِذا، نظرًا لوقعِها على المالية العامة، يجب، بعد تعافي الاقتصاد وتصحيح رواتب الموظفين واستقرار سعر الصرف، إدخال تعديلات منهجية على نظام تقاعد القطاع العام لضمان استدامته على المدى الطويل مع العمل على تقليص الفجوة بين أنظمة التقاعد في القطاعين العام والخاص. إن موضوع نظام وكلفة التقاعد من صلب سياسة الرعاية الاجتماعية والذي، على كلفته، يبقى خارج نطاق إصلاح الإدارة العامة.
٤. الإصلاح الإداري، وتحسين إدارة النفقات العامة موضوعان مختلفان. إن إنجاز خطة إصلاحُ القطاع العام يتطلّب تَجْزئة مكوناته لمقاربتها كُلّ على حِدىً عبر الفصلِ بين الاسلاك، والتمييزِ بين موضوعَيْن: "الإصلاح الإداري" و"تحسين إدارة النفقات العامة" لمعالجتهما بشكلٍ فعّال. فالإصلاح الإداري يتطلّب التركيز على الإدارة العامة (وعدد موظفيها ٢٥ ألفاً)، والمؤسسات العامة (وعدد موظفيها ٢٠ ألفاً). أمّا الاسلاك الأخرى، ذات الوقع الشديد على الموازنة العامة، فهي خارج نطاق إصلاح الإدارة العامة، ويجب معالجتها في سياق أوسع، بدءاً بقطاع التعليم العام عبر إصلاح السياسة التربوية نظراً لتدَنّي جودة التعليم رغم فائق عدد المُدَرِّسين نسبةً لعدد التلامذة. كذلك واقع الاجهزة العسكرية التي يجب معالجتها في السياق الوطني الأوسع لاستراتيجية الدفاع والحفاظ على الأمن.
٥. مؤسسات ذات نظام حوكمة غير مؤاتي. يُعَدّ إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة من حيث تحسين الحوكمة والإطار التنظيمي أمراً بالغ الأهمية لتنفيذ سياسات عامة تُحَفِّز النمو وتُحسن تخصيص واستعمال الموارد، وتحدُّ من انتشار الفقر. لقد فشل القطاع العام بالاضطلاع بدوره المحوري والحصري في سَنّ الأُطر القانونية والتنظيمية الداعمة للنمو في ظل سلطة قضائية حازمة ومستقلة، ومؤسسات رقابية كاملة الصلاحيات. فمن المهم في لبنان، حيث القطاع الخاص – الذي يصول ويجول بفائض من الحرية أحياناّ – هو المحرك الرئيسي للاقتصاد وخلق العمالة والقيم المضافة، آن يكون لمؤسسات الدولة دور قيادي في تأمين نظام قائم على التنافسية، محرّر من هيمنة الاحتكارات وآفة الفساد، تُطَبَّقُ فيه القوانين بشفافية لضمان نزاهة الأسواق وتكافؤ الفرص للمشاركين فيها وحماية المستهلك والمستثمر على حٍد سواء. بيد أن الممارسة في لبنان على مدى العقدين الماضيين لم تكن على هذا المستوى، وقد آنَ يوم الحساب.
٦. إصلاح القطاع العام هو من ركائز خطة التعافي الحكومية. إن إعادة بناء وتمكين المؤسسات الإجرائية التي تقود وتُنَفِّذ السياسات العامة، والأجهزة الرقابية التي تسهر على الالتزام بالقوانين والانظمة، ركيزة أساسية لخطة التعافي الحكومية التي تم تقديمها إلى مجلس النواب في ايلول ٢٠٢٢. إن تحديث وتطوير وتعزيز جهاز الإدارة العامة بمؤسساتها الضعيفة أو المهمشة وتحسين أدائها وتنسيق عملها هو عامل اساسي للإصلاح المؤسسي الناجح، بل لخطّة الإصلاح برمّتها، وله تأثير حاسم على مسار التعافي الاقتصادي.
٧. إدارة عامة بنظام وهيكلية تخَطّاهما الزمن. يعود تاريخ هيكلية الإدارة العامة في لبنان إلى ستينيات القرن الماضي، بٌنِيَ استناداً للمهام والواجبات التي تم تكليف المؤسسات الوطنية بأدائها في ذلك الوقت، ولكنها تطورت بشكل جذري منذ ذلك الحين. لقد حان الأوان لإعادة تصميم هذه الهيكلية وفقًا لاستراتيجية مدروسة، وذلك على مسارَيْن متوازيَيْن:
(١) أولهما يخِصُّ الوزارات والإدارات الأساسية في القطاع الحكومي؛ و(٢) وثانيهما يخص جميع الكيانات العامة الأخرى ومجموعها حوالي الثمانين (٨٠) من شركات ومؤسسات وهيئات ومنشآت ومجالس وسلطات مملوكة للدولة، إضافة إلى ثمانية وعشرين (٢٨) مستشفى حكومًيا. ويتطلب تنفيذ الاستراتيجية مشاورات واسعة النطاق وبناء توافق في الآراء على المستويين الوطني والسياسي. ومن الممكن "للمجلس الاقتصادي والاجتماعي" بتمثيله الثلاثي— "العمال وأصحاب العمل والدولة – أن يكون المنصة المناسبة للحوار بين ذوي الشأن المتعددين حول إصلاح القطاع العام، وهو من قضايا السياسة العامة الهامة.
٨. قطاع عام ذو هيكلية معززة، حديثة ومُبَسّطة. إن هدف الإصلاح النهائي هو تعزيز وتبسيط الهيكلية، والحجم إن لزِم الامر، لجميع الهيئات العامة بما يتماشى مع ولايتها المحدثة من خلال رفع مستوى المهارات، وإعادة توزيع الفوائض لملء الشواغر، والاستنزاف الطبيعي. في البيئة الاقتصادية المتعثرة حالياً في لبنان، إن أجور القطاع العام المقَوَّمة بالعملة المحلية التي انخفضت قيمتها بشكل حاد لتغدو أقل جاذبية من تعويضات القطاع الخاص – ما لم يكن الحال قبل حلول الازمة – تمثل فرصة فريدة لإعادة هيكلة القطاع العام دون تسريح عدد كبير من الموظفين. لذلك، سيتم وضع هيكلية مبسطة مع مخطط تنظيمي منقح لكل وزارة ومؤسسة عامة، مع تحديد الأوصاف الوظيفية التفصيلية لجميع المناصب على امتداد التسلسل الهرمي بأكمله. ويمكن بعد ذلك إعادة النظر بسلسلة الدرجات والأجور وتعديلها لتتناسب مع مؤهلات الموظف المعززة وزيادة الإنتاجية.
٩. الحكومة الإلكترونية. سيتم أيضًا متابعة الإصلاح الإداري من خلال برامج الحكومة الإلكترونية القابلة للتنفيذ والتي تسمح للمواطنين بإجراء المعاملات الرسمية بتقديم الطلبات عبر الإنترنت، وإرفاق الوثائق المطلوبة، وجمع الإجراءات الشكلية المكتملة عند الإخطار (أمثلة على ذلك، النافذة الواحدة للسجل التجاري، ونظام السجل الوطني على الإنترنت). ولا يزال لبنان يحتل مرتبة متدنية بين الدول من حيث المشاركة الإلكترونية وصلتها بالعملية الديمقراطية، وعلى الرغم من القرارات التنفيذية المختلفة بشأن سياسات الحكومة الإلكترونية، إلا أنه لم يتم بعد تطوير مشاريع حكومة إلكترونية فعالة وأكثر شمولاً. وتُطلِق "استراتيجية التحول الرقمي في لبنان ٢٠٢٠-٢٠٣٠" – التي تمّ وضعها برعاية "مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية" وموافقة مجلس الوزراء عام ٢٠٢٢ -- العملية الرامية إلى تحقيق أهداف الإصلاح عبر مجمل آليات العصر الرقمي. على هذا النحو، بينما يسعى مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية جاهدا لإصلاح القطاع العام وتنفيذ استراتيجية لمكافحة الفساد، فإنه يسعى أيضا إلى تنفيذ مبادرة التحول الرقمي. ومن شأن ذلك أن ينشط القطاع العام ويلبي تطلعات المواطنين في تطوير الاستخدام الفعال للحكومة الإلكترونية، وبالتالي تحديث إدارة الحكومة من خلال الأتمتة؛ وتعزيز الخدمات الإلكترونية عبر الوزارات؛ والمساعدة في بناء الأساس لمجتمع قائم على المعرفة وخالي من الفساد. ويدعو الأمر إلى تعزيز التنسيق بين مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية وجميع الوزارات لتعزيز بناء الحكومة الإلكترونية مما يتيح إمكانية التشغيل البيّني بين كل مؤسسات الدولة.
١٠. أين الحكومة من مسيرة إصلاح القطاع العام؟ تتناول خطة التعافي الحكومية على المدى المتوسط، خارطة طريق لإصلاح القطاع العام لِكِلاً من الإدارة العامة والشركات المملوكة للدولة. وقد تم صياغة وإدراج تدابير الإصلاح في اتفاقية الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وهي مرتبطة بتسعةٍ مما ُيَسّمى "المعايير الهيكلية" – من إجمالي ثمانية وعشرين معياراً تُشكِّل أجندة الإصلاح الشاملة. وفي مصفوفة التدابير المتفق عليها مع صندوق النقد، فإن معايير إصلاح القطاع العام مرقمة ١ و٤ و٧ و٨ و٩ و١٠ و١٣ و١٤، فيما يتعلق الرقم ١١ بإصلاح نظام التقاعد..
١١. الحكومة ملتزمة إجراء إصلاح شامل لقطاع الشركات المملوكة للدولة لتحسين جدواها التشغيلية والمالية. تتمثل الأولوية في تحديث الإطار القانوني، وتحسين الكفاءة، وخفض تكاليف المالية العامة بشكل ملحوظ من خلال تعزيز المساءلة والشفافية والرقابة على هذه الكيانات. ويقوم البرنامج على ما يلي:
(أ) - إنشاء الحسابات المالية وقوائم الجرد لجميع الشركات المملوكة للدولة وتحديثها سنويًا، سواء كانت المؤسسات تحت إشراف وزارة المالية أو وصاية الوزارات القطاعية أو البنك المركزي. لِذا ستقوم شركات عالمية مرموقة بعمليات التدقيق التشغيلية والمالية للمؤسسات المملوكة للدولة بدءاً بشركة كهرباء لبنان، ومرفأ بيروت، وكازينو لبنان، وطيران الشرق الأوسط، ومشغلي الاتصالات، وإدارة التبغ. كما سيتم نشر جميع عمليات التدقيق تعزيزاً للشفافية.
(ب) - تحديث وتحسين معطيات ملكية الشركات المملوكة للدولة، وتحديد بمزيد من الدقّة الإطار القانوني غير الواضح احياناً للملكية والرقابة والوظائف والسياسات التشغيلية. وفي خطوة أولى، ستعمد الحكومة إلى وضع شرعة ملكية لشركات المملوكة للدولة مع المعايير والاسس التي تُبرِّر او تتطلّب ملكية الدولة، مع بنية جديدة لحوكمة الشركات، ومراقبة الأداء، والمبادئ التوجيهية لإعداد التقارير والإفصاح. واستناداً إلى هذه الاستراتيجية، سيتم سن قانون جديد للمؤسسات المملوكة للدولة يتماشى مع المعايير الدولية، وفرز الشركات إلى تلك التي ستحتفظ الدولة بإدارتها ، أو خصخصتها، أو دمجها، او تصفيتها.
١٢. أجندة إصلاحية يجب أن تعتمد على سجل لبنان الحافل في المساعدات الخارجية. على مر السنين، كان لبنان يتلقى مساعدات خارجية واسعة النطاق تهدف إلى إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة. وعلى وجه الخصوص، تم دمج فرق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية منذ إنشائه، إلى جانب البرامج الأخرى التي يدعمها البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إضافة إلى عديد من المصادر الثنائية للمساعدة الفنية. وفي هذه العملية تم بناء قدر كبير من المعرفة والتحليلات. لِذا، إن إنشاء قائمة جرد لهذا العمل واستخلاص الدروس وتقييم نتائجه من شأنه أن يساعد الحكومة بشكل كبير في حملتها لإصلاح القطاع العام.