إضراب القضاة: شلل لم يعهده تاريخ لبنان

يستمر إضراب أكثر من ثلثي قضاة لبنان منذ نحو ثلاثة أسابيع. ولا حلول بالأفق تنبئ بإمكانية عودة العمل إلى مرفق العدالة، الذي يعيش شللًا لم يعهده تاريخ لبنان. 

 

وفيما يصر قضاة لبنان على تصحيح "جذري" لرواتبهم، وتحسين ظروف عملهم اللوجستية، مع أصوات تطالب بتعزيز استقلاليتهم عن السلطة السياسية، تشير معلومات "المدن"، إلى أنه، وفي حال لم تقر المطالب، قد يتجه لاحقًا مجلس القضاء الأعلى، وبصفة رسمية، إلى إعلان إقفال قصور العدل، بهدف رفع منسوب الضغط، بما يتجاوز تبينه لمطالب القضاة. 

 

قلق ولا حلول 

وتتحدث معطيات "المدن" عن قلق كبير في أروقة وزارة العدل، من إصرار القضاة على المضي بإضرابهم بعد العطلة القضائية إلى أجل غير مسمى، وما سينتج عنه من احتقان شعبي واسع، في ظل تعطيل مختلف المحاكمات وأبسط الإجراءات القضائية. خصوصًا أن هذا الإضراب يتزامن مع فوضى تعصف بسجون لبنان، والتي تشكو إلى جانب أزمتي الغذاء والطبابة، من اكتظاظ كبير لأن 79% من النزلاء غير محكومين، باعتراف وزير الداخلية بسام المولوي. 

 

ويقول مصدر رسمي في وزارة العدل لـ"المدن"، أن الوزير هنري الخوري يواصل اجتماعاته مع رؤساء الهيئات القضائية، بحثًا عن مخارج مقابل حد أدنى من العمل. لكن جميع الاقتراحات تصطدم برفض القضاة، كونها من وجهة نظرهم جزئية و"ترقيعية" وغير مستدامة. 

 

التسويف والمماطلة

وبعدما أقر وزير المالية يوسف الخليل نقل اعتماد من احتياطي الموازنة بقيمة 35 مليار ليرة كمساعدات اجتماعية لصالح صندوق التعاضد، يرفض القضاة أيضًا هذا الحل، كونه برأيهم غير كاف لأكثر من شهرين. لكن الإشكالية بالنسبة لآخرين منهم، أن حتى هذا المبلغ لم يصل بعد إلى صندوق التعاضد، ويخافون من تسويف ومماطلة بحجة الإجراءات الروتينية. 

 

لكن الواقع، أن مطلب القضاة أضحى واضحًا: تقاضي راتب مرتبط بسعر الصرف الحقيقي للدولار بالسوق السوداء. وعبروا عن استعدادهم –في بيان صدر يزم 3 أيلول باسم "قضاة لبنان"– التراجع عن الإضراب لشهرين فقط، بحالة واحدة: "دفع الراتب موقتًا على سعر صيرفة المعلن يوم الاستحقاق من مصرف لبنان. على ألا يتم التعليق إلا يوم القبض الفعلي".

 

ويقول مصدر وزارة العدل، إن هذا المطلب –وإن كان محقًا– من المصعب جدًا تحقيقه راهنًا، في ظل عجز الدولة وإفلاسها والعاصفة التي تضرب مختلف فئات وموظفي القطاع العام. 

 

وبعدما سقط تعميم عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي طلب فيه من المصارف احتساب رواتب القضاة على سعر صرف للدولار يوازي 8 آلاف ليرة بدلًا من 1500 ليرة، يبدو مطلب احتساب رواتبهم بسعر صرف حقيقي للدولار (35 ألفاً)، أو على منصة صيرفة (28 ألفاً)، كمن يطلب المستحيل، وفق كثيرين. 

 

تعطيل العدالة 

توازيًا، وفيما يضرب نحو 400 قاضٍ من أصل 520 قاضياً، يؤكد مصدر من القضاة المضربين لـ"المدن"، أن هذا المطلب لا تراجع عنه لفك الإضراب، "بعد ثلاث سنوات من التمادي بإجحافنا، وتحويلنا إلى شماعة لمصائب البلد، ومحاولات قمعنا عن المطالبة بأي حق". 

 

ويعتبر هؤلاء القضاة، وفق المصدر، أن السلطة وبعض اللبنانيين "يطلبون منا التعفف عن مطالبنا، وكأنها مشروعة فقط لبقية موظفي القطاع العام، فيما أصبح أغلبنا يعجز عن التنقل إلى مركز عمله وتوفير مستلزماته العائلية من طبابة وتعليم". 

 

ويتساءل المصدر باسم القضاة: السلطة تنهمك حاليًا بإيجاد أي حل يرضي موظفي قطاع الاتصالات. "فكيف يقلقون من انقطاع الاتصالات والانترنت، ولا يتحسسون مخاطر شلل قصور العدل وتعليق مصالح الناس؟" 

 

مصير الموقوفين وأهاليهم

ويصف القضاة حالتهم بـ"المضربين قسرًا". وفيما يعتبر كثيرون أن فئة واسعة منهم خضعت على مدى عقود لأجندات سياسية منحازة لصالح القوى التابعة لها، يرفقون هذه المرة مطلبهم بإقرار قانون استقلالية القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. 

 

ويقول القضاة المضربون أنهم لو عادوا إلى العمل، فإن قصور العدل والمحاكم بحالة انهيار شامل بالبنى التحتية: لا كهرباء ولا قرطاسية. 

 

في هذا الموقف، ينظر الموقوفون والمواطنون أصحاب المصلحة بريبة شديدة لهذا الإضراب الذي ينذر بالأسوأ مع تقدم الأيام، خصوصًا إذا توجه مجلس القضاء الأعلى إلى التصعيد رسميًا. إذ إن عمل النيابات العامة معلق، والضابطة العدلة لا تستطيع اتخاذ أي قرار أو اجراء، في ظل تجميد إعطاء الإشارات القضائية. 

 

وللتذكير، شهد الأسبوع الفائت اعتصامات لأهالي موقوفين بعدد من المناطق اللبنانية، وحمل بعضهم مسؤولية مصير أبنائهم العالقين بالسجون للقضاة المضربين. وكأن لبنان عمليًا، يقف على عتبة مواجهة مفتوحة بين المواطنين، أمنيًا وقضائيًا واقتصاديًا ومعيشيًا، فيما قوى السلطة تتفرج على نتائج ما اقترفوه منذ عقود.