إعادة هيكلة القطاع العام... تحدٍ كبير في انتظار الحكومة العتيدة!

لا يخفى على أحد أن التوظيف في القطاع العام، شكّل الأداة الرئيسية لبناء الزعامات في لبنان. وإستطاعت القوى السياسية وضع يدها على قرار المؤسسات، من خلال زرع موظّفين تابعين لها في مراكز القرار. ولم تقف القصة عند هذا الحدّ، بل ذهبت الأمور إلى حدّ إلغاء دور مجلس الخدمة المدنية، وإلغاء دور المعلّمين وغيره من المؤسسات، التي تضمن تكافؤ الفرص. كل هذا لمصلحة توظيف أشخاص غير كفوئين، وأحيانًا أشخاص وهميين. وبحسب تقديراتنا، هناك ما يقارب مئة ألف وظيفة غير قانونية في القطاع العام منها 30 ألفًا تمّ توظيفهم، بعد إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب، والباقي توظيف وهمي.

ان ما يزيد على 300 ألف موظّف يقبضون أجورًا من القطاع العام، بكلفة كانت تبلغ ستّة مليارات دولار أميركي قبل الأزمة، أي ما يوازي الـ 11% من الناتج المحلّي الإجمالي، و35% من الموازنة العامّة.

على صعيد المؤسسات، ذهبت الأمور بعيدًا مع وجود عشرات وعشرات المؤسسات العامة والوزارات غير المجدية، لا اقتصاديًا ولا اجتماعيًا. وقد ذكر تقرير لجنة المال والموازنة في العام 2019 هذا الأمر، مشدّدًا على إعادة النظر بجدوى 90 مؤسسة ووزارة، تستهلك موارد الدولة ولا تعود بالفائدة على أحد. أيضًا، لا يمكن إغفال النظر عن مؤسسات تستنزف خزينة الدولة من دون إعادة هيكلتها، كمؤسسة كهرباء لبنان وغيرها من المؤسسات الخدماتية والصناديق، التي شكّلت في الماضي القريب ولا تزال عبئا كبيرا على خزينة الدولة.

إعادة هيكلة القطاع العام تتطلب نهجا شاملاً، يهدف إلى ترشيق القطاع العام وتحسين كفاءته وشفافيته وخدماته، بالتوازي مع محاربة الفساد المتجذّر في الإدارة العامة، وضرب كل أساليب التوظيف المبنية على الزبائنية. لكن هذه المُهمّة تتطلّب حكومة ملتزمة بالإصلاح، تعمد إلى إجراء تغييرات وتحسينات على الأنظمة والمؤسسات وحتى الهيكلية المؤسسية القائمة، معطوفة على إرادة سياسية، لتنفيذ هذه الإصلاحات دون خضوع لضغوط طائفية.

ولعل من أهم هذه الإجراءات:

- أولاً : القيام بعملية جردّ شاملة، من خلال إجراء مراجعة مفصّلة لجميع المؤسسات والإدارات العامة، لتقييم وضعها الحالي والخدمات التي تُقدّمها والتوظيف فيها، وأدوار الموظّفين وأدائهم. وهذا يشمل تحديد المخالفات القانونية في التوظيف (الوظائف الوهمية وتلك المخالفة للقانون) وتحديد الكفاءات المتدنّية. كما ويشمل وضع توصيف مفصل للوظائف لجميع المناصب، لضمان الوضوح في المهام والمسؤولية في الأدوار.

- ثانياً : إعادة هيكلة المؤسسات العامة المملوكة من الدولة بدون استثناء (مثل مؤسسة كهرباء لبنان)، حيث ينبغي تحرير القطاعات كافة، إذ إن هناك حصرية لهذه المؤسسات (كهرباء، اتصالات...) وإشراك القطاع الخاص في إدارة المؤسسات المملوكة من الدولة، وتعيين هيئات ناظمة لكل القطاعات تضمن المصلحة العامة. هذا الأمر سيزيد حكما من المنافسة ويُحسّن جودة الخدمة.

- ثالثاً : زيادة الشفافية والمساءلة وهو مطلب رئيسي للمواطن في كل دول العالم، وبالتحديد في لبنان، حيث قضى الفساد على كل أنواع الشفافية، ولم ينفع إقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات في تغيير هذه المعادلة. لذا يشكّل نشر البيانات على المواقع الرسمية والشفافية في المناقصات العمومية (مع وقف التعاقد بالتراضي)، ونشر الحسابات المالية للمسؤولين، أساسا في هذا الأمر.

- رابعاً : مكافحة الفساد وتضارب المصالح وتعزيز الحوكمة الرشيدة، وهذا يتضمّن تقليل تأثير اللوبيات الاقتصادية والسياسية ومجموعات المصالح الخاصة، وتفعيل الرقابة، وتعزيز التدابير المضادة للفساد، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، من خلال ضمان أن الإصلاحات ليست فقط حبرا على ورق، بل هي تُنفذ فعليا.

- خامساً : مكننة الإدارة والمؤسسات العامّة والقضاء واستخدام التكنولوجيا، واعتماد التقنيات الرقمية، وتبسيط العمليات، لجعلها أكثر فعالية وأقل تعقيدًا وأقل عرّضةً للفساد، والتوجّه نحو الحكومة الإلكترونية.

- سادساً : التوازن في السلطة بين مختلف المستويات الحكومية، منعا لتركيز السلطة وضمان حوكمة أكثر ديناميكية واستجابة. وهنا تكمن أهمّية المداورة، حيث إن توزيع صلاحيات القرار تجعل الإدارة العامة أكثر استجابة وكفاءة، وتُقلّل من التركيز.

- سابعاً : وضع نظام قائم على الكفاءة للتوظيف والترقية، بهدف كسر دورة الزبائنية والمحاصصة الطائفية، التي تسيطر حاليا على التوظيف في القطاع العام. أيضا يجب وضع وتطبيق معايير أداء للموظّفين مشابهة لتلك الموجودة في القطاع الخاص، لقياس وتحسين أداء الموظفين في القطاع العام، وهذا الأمر يُقلّل من التدخل السياسي، ويؤمّن توزيعا عادلا للفرص، من خلال اعتماد الكفاءة الفردية والخبرة والالتزام.

- ثامناً : إعتماد التخطيط الاستراتيجي (لما لا وزارة للتخطيط؟!) على مختلف مستويات الحكومة والإدارة العامّة ، بهدف مواءمة السياسات العامة مع الأهداف الوطنية على المدى الطويل، معطوفة بتحسين قدرات صنع السياسات، من خلال أنظمة بيانات حديثة ومُمكننة.

- تاسعاً : إستعادة ثقة المواطنين بمؤسساتهم، من خلال إشراكهم في عمليات الإصلاح، وجعلها تتناسب أكثر مع تطلعاتهم واحتياجاتهم العامة.

- عاشراً : إعادة هيكلة الدين العام، التي يجب أن تكون جزءا من خطّة مالية عامة وشاملة، تتضمّن تقليص الإنفاق غير الضروري، ووقف الدعم غير المجدي (مثال الكهرباء)، وتعزيز الشفافية المالية، من خلال وضع موازنات عامّة شفافة، واعتماد أنظمة تصنيف حديث، وتحسين التحكم في تطبيق هذه الموازنات، والالتزام بالمادّة 112 من قانون المحاسبة العمومية.

يبقى السؤال عن مصير الفائض أو المخالف من الموظفين؟ من الحلول الممكنة بالطبع إعطاؤهم تعويضهم وإنهاء خدماتهم، أو قد يكون هناك حلول أخرى، مثل تلزيم هذه الموارد البشرية إلى القطاع الخاص، ضمن إطار الشِرْكة مع القطاع الخاص، على أن يكون هناك فترة من التجربة. هذا الحلّ يحفظ هؤلاء الموظّفين من خسارة فورية لوظائفهم. أيضا من بين الحلول إعادة توزيع الفائض على مؤسسات عامّة أخرى، ضمن إطار حملة تدريب لتأهيل الموظّف لاستلام مهامه الجديدة، على أن يكون هناك التزام بمعيار الأداء.

نجاح الإجراءات الآنفة الذكر، يتطلّب حكومة قادرة على تنفيذها، والتزاما من قبل القوى السياسية، بالإضافة إلى الحاجة إلى تشريعات وقوانين تدعم هذه الإصلاحات. وقد يتطلّب الأمر من الحكومة إجراء مشاريع تجريبية (Pilot) ، بهدف التأكّد من فعاليتها قبل التوسّع في تطبيقها. أيضا قد يكون من المفيد أن تعمد الحكومة إلى طلب مساعدة دولية (مالية وتقنية)، بهدف تنفيذ هذه الإصلاحات، ومراقبة تطبيقها ، وتقييم أثرها المؤسسي والاجتماعي. أيضا من المهمّ أن يكون هناك مواكبة إعلامية لهذه الإصلاحات، بهدف إظهار أهمّيتها للرأي العام (تحوّل ثقافي) وللموظفين أنفسهم.