المصدر: المدن
الأربعاء 12 تشرين الثاني 2025 11:26:48
الشخصية التي خلفت اللواء غازي كنعان، لكنها لم تحمل طباعه. عُرف رستم غزالي بالشدة وإصدار الأوامر بعنجهيّة، وبميلٍ غريب إلى الصرامة والرغبة في السيطرة الكاملة. ويُقال إنّه لم يكن يخاطب مساعديه إلا وقدماه موضوعتان على الطاولة.
لم يكن رستم غزالي مجرّد ضابط سوري؛ بل شكّل تجسيداً لمرحلة كاملة من تاريخ العلاقة بين السلطة والعنف في سوريا ولبنان. ابن قرية قرب درعا، الذي خرج من بيئة ريفية متواضعة ليصل إلى واحد من أكثر المواقع الأمنية نفوذاً في الدولة، قبل أن ينتهي إلى مصير غامض ووحيد، يعكس ما آل إليه النظام الذي خدمه حتى الرمق الأخير.
صعود الضابط الريفي
وُلد رستم غزالي في العام 1953 في قرية قرفا بمحافظة درعا. في بداياته، لم يكن يختلف كثيراً عن أبناء طبقته الريفية الذين التحقوا بالجيش بحثاً عن مكانة اجتماعية وفرصة للترقي. لكن النظام البعثي، ومن بعده الأسد الأب، كان قد صاغ معادلة جديدة للسلطة: الولاء أولاً، والكفاءة الأمنية ثانياً.
برز غزالي سريعاً داخل فرع المخابرات العسكرية، وأُرسل إلى لبنان ضمن "جهاز الأمن والاستطلاع"، كان قد أصبح واحداً من الضباط الذين يثق بهم غازي كنعان، الحاكم الفعلي للبنان تحت الوصاية السورية.
ظلّ كنعان في لبنان
بين عامي 1998 و2005، تولّى غزالي رئاسة جهاز الأمن السوري في لبنان خلفاً لكنعان. لكن أسلوبه كان مختلفاً تماماً: في الوقت الذي كان فيه كنعان يفضّل شبكة النفوذ الهادئة، والضبط الدقيق للسياسيين اللبنانيين عبر الترغيب والتهديد الناعم، كان غزالي يميل إلى المواجهة الفظة واستعراض القوة.
تحوّلت عنجر، مقرّه الرئيس، إلى رمز للهيمنة السورية المباشرة. جلساته مع الوزراء والنواب اللبنانيين كانت تنتهي غالباً بإهانات صريحة أو أوامر قاطعة. وكان يتصرف كما لو أن لبنان محافظة سورية إضافية، لا دولة مستقلة.
وبالرغم من أنّه لم يكن من الحلقة الضيقة المحيطة ببشار الأسد، إلا أنّ نفوذه في لبنان جعله واحداً من أركان النظام، وصاحب ثروة هائلة تراكمت من "الهدايا" والصفقات.
السقوط البطيء
اغتيال رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005 كان لحظة الانهيار الفعلية للنفوذ السوري في لبنان، ومعه بداية نهاية رستم غزالي. عاد إلى دمشق محمّلاً بشبهات كثيرة وغضب داخلي مكتوم. عُيّن لاحقاً رئيسًا لشعبة الأمن السياسي، لكن المنصب لم يعد يعني الكثير.
التحقيق الدولي في اغتيال الحريري ألقى ظلالاً كثيفة عليه، وظل اسمه يتردد بين من يُشتبه بضلوعهم في الترتيب للعملية أو التغطية عليها. ومع أنّ النظام حماه من المساءلة، إلا أنّ ذلك الحصن لم يعد محكماً كما في السابق.
سنوات الثورة
عندما اندلعت الثورة السورية في درعا في العام 2011، وجد رستم غزالي نفسه أمام مشهد لم يتخيّله: مدينته تتحرك ضد النظام الذي عاش من أجله. ووفق مصادر تحدثت لـِ "المدن"، يُقال إنّه هو من فجّر قصره وأحرقه، متهماً الثوار بذلك، في محاولة لإخفاء معالم اتصالات وأدلة سُرّبت إلى المحكمة الدولية بشأن قضية الحريري، وكان النظام قد اكتشفها.
في تلك الفترة، كان غزالي على رأس جهاز الأمن السياسي، وشارك في اجتماعات إدارة الأزمة، لكنه بدا متردداً. وتشير بعض التقارير إلى خلافاته مع رفاقه في الأجهزة، ولا سيما رفيق شحادة. وفي الجنوب، حاول استعادة نفوذه القديم عبر الميليشيات المحلية، غير أنّ النظام لم يعد يثق به كما في السابق. وهكذا بدا الرجل الذي مثّل وجه السلطة في لبنان غريباً في عقر دارها.
بين الولاء والمهانة
رستم غزالي لم يكن معارضاً، ولم يتمرّد يوماً على النظام. غير أنّه شعر بالإهانة حين تعرّض للضرب المبرّح على يد عناصر من جهاز الأمن العسكري في العام 2015، إثر خلاف مع رفيق شحادة، وفق روايات متقاطعة نقلتها وسائل إعلام وشهود سابقون. ووفق معلومات حصلت عليها "المدن" من مصادر مطلعة آنذاك، نشب عراك كبير بينهما عبر الهاتف انتهى بتهديد غزالي لشحادة بالقدوم إلى مقرّ الأمن العسكري ومواجهته. وهناك، تعرّض غزالي للضرب المبرّح مع مرافقيه، قبل أن يُقدِم شحادة على تعذيبه على نحوٍ وحشي، إلى حدّ ربطه بسيارتين جرى إبعادهما عن بعضهما، ثم أُلقي أمام مستشفى الشامي.
كانت تلك الحادثة مؤشّراً واضحاً على تآكل موقعه داخل المنظومة. لم تعد الولاءات القديمة كافية لحمايته، ولم يعد الخوف الذي زرعه في الآخرين يقيه. وبعد أسابيع قليلة، أُعلن عن وفاته في مستشفى الشامي بدمشق متأثّراً بجروحه، في ظروف ظلّت غامضة حتى اليوم.
ما بقي غامضاً تكشفه "المدن" اليوم. فقد أفاد مصدر موثوق أنّه، بعد وصول غزالة إلى مستشفى الشامي، جرى حقنه بإبرة من كلوريد البوتاسيوم. ويؤدّي الحقن الوريدي بجرعة عالية من كلوريد البوتاسيوم إلى إحداث اضطراب في الإلكتروليتات التي تغمر القلب، وهذا ما يمنع انقباض عضلته. وإذا لم يُعَد تشغيل القلب في وقت قريب جداً، فإن توقّفه يقود إلى موت محقّق.
نهاية رجل بلا ظلّ
مات رستم غزالي كما عاش: في منطقة رمادية بين الولاء المطلق والخوف المطلق. لم يُكرَّم، ولم يُشيَّع رسمياً كما يفعل النظام عادة مع رجاله. بدا كأن المؤسسة الأمنية تخلّت عن أحد أبنائها الذين أصبحوا عبئاً على صورتها.
لم يكن خصماً سياسياً، ولا منشقاً. لكنه كان شاهداً على تحوّل النظام من شبكة ولاءات منضبطة إلى جزر أمنية متناحرة، لكل ضابط فيها حسابه الخاص وسلاحه الخاص.
إرث الأجهزة
من الصعب قراءة سيرة رستم غزالي بمعزل عن ظلّ غازي كنعان، فالرجلان يشكّلان معاً وجهين لمرحلة واحدة من تاريخ النظام الأمني السوري في الداخل والخارج. كنعان كان "رجل النظام العاقل"، بنى سلطته على الدهاء والسيطرة الهادئة، في حين كان غزالي صنيعة زمن أقل صبراً وأكثر فجاجة، زمن بشار الأسد الذي اختصر الدولة في صورة الأجهزة وتناحرها الداخلي.
في لبنان، ورث غزالي شبكة النفوذ التي أسسها كنعان، لكنه حوّلها إلى استعراضٍ للسطوة بدلاً من أن تكون أداةً للضبط السياسي. وحين انسحب الجيش السوري في العام 2005، كانت المقارنة بين الرجلين أقسى ما واجهه: الأول خرج من الباب تاركاً وراءه حنيناً غامضاً لدى بعض اللبنانيين، والثاني غادر محمّلاً بالكراهية والريبة.
لكن النظام الذي صنعهما لم يحتمل بقاءهما طويلاً. كنعان أُقصي بالرصاص الغامض، وغزالي أُهين ثم صُفي . كلاهما انتهى في اللحظة نفسها التي فقد فيها النظام ثقته بنفسه، وكلاهما عكس الوجه الحقيقي للمنظومة الأمنية: آلة تبتلع أبناءها حين تشعر بأنهم باتوا يعرفون أكثر مما يجب.
في المحصلة، لم يكن رستم غزالي آخر رجالات تلك المرحلة فحسب؛ بل أحد آخر من جسّدوا العلاقة القديمة بين الريف والسلطة، بين الفرد والنظام، بين العنف كوسيلة للحكم والعنف كقدرٍ شخصي. رحل تاركاً وراءه ذاكرة مشوشة عن زمنٍ كان فيه الولاء أهم من الوطن، والسلاح أوضح من الفكرة.