المصدر: نداء الوطن
الكاتب: جوزيف حبيب
الاثنين 10 آذار 2025 06:57:54
ليس جديداً الاقتتال الطائفي المتداخل أو المتقاطع مع صراع القوى الإقليمية والدولية على «بلاد الشام»، التي زلزلتها مذابح أهلية مرعبة في حماة وحمص وحلب ودمشق واللاذقية... دفع ثمنها مدنيون، خصوصاً من الأقليات الدينية والعرقية، على مدى قرون، حين تعرّضوا لحملات «بوغروم» وحشية، فيما استغلّت قوى خارجية متعاقبة الشرخ الداخلي، وألهبته أحياناً كثيرة، للتحكّم بمفاتيح «بوابة» المشرق وحجز «مقعد» جيوسياسي لها في المنطقة الاستراتيجية بين الشرق والغرب. وما يحصل في الساحل السوري اليوم ليس وليد الساعة ولا يُعدّ حدثاً خارجاً عن السياق التاريخي للتطورات في سوريا.
صحيح أن نظام البعث الهالِك عاث في البلاد فساداً أكثر من دفع ثمنه سنّة الأرياف، إذ إن شرائح وازنة من سنّة المدن كانوا جزءاً من تركيبة النظام السابق، أو أقلّه تنعّموا من «خيراته» المادية على مدى عقود حكمه الجائِر، بيد أن الاحتقان الأهلي السني - العلوي ضارب في أعماق التاريخ والعقائد، رغم استعاره خلال الحرب الأهلية الأخيرة، وهو كان كالجمر تحت الرماد، خصوصاً بعد مجزرة حماة عام 1982.
الثورة السورية التي تفجّرت عام 2011، كانت شكلاً من أشكال «انتفاضة» الغالبية السنّية على الحكم العلوي الأقلوي، الذي عاد وتجرّع من كأس «سمومه الفكرية» الـ «أنتي - طائفية» بعدما لوّث بها أجيالاً سورية عدّة وأطلقت العنان للتطرّف الديني والتقاتل الطائفي، رغم التقاطعات المصلحية والوظيفية العابرة للطوائف في النظام السابق والحراك الثوري على السواء، التي لم تحل دون حصول مذابح ومجازر طائفية متبادلة دفع ثمنها الأبرياء.
انتفاضة فاشلة ومجازر مروّعة
طفت على السطح أخيراً أسماء لشخصيات عسكرية وأمنية من النظام البائِد كانت وراء «الانتفاضة المسلّحة» في الساحل السوري ضدّ الوحدات الأمنية والعسكرية التابعة لسلطات دمشق، بينهم «رجل الاغتيالات» إبراهيم حويجة، الذي اعتُقل في اليوم الأوّل لاندلاع المواجهات الخميس الماضي، وسهيل الحسن، الملقب بـ «النمر» والذي كان معروفاً بـ «رجل روسيا» داخل الجيش السوري السابق، فضلاً عن قائد «قوات الغيث» التابعة للفرقة الرابعة إبّان حكم نظام الأسد غياث دلا، وهو مقرّب جدّاً من إيران وأذرعها، والضابط السابق مقداد فتيحة، الذي أعلن تشكيل «لواء درع الساحل» الشهر الماضي، وغيرهم.
وربط بعض الخبراء تحرّك «الفلول» العسكري المنظّم الذي مُني بفشل ذريع، رغم استمرار الاشتباكات في بعض «الجيوب»، بصراع النفوذ الإقليمي وسعي طهران للعودة إلى الساحة السورية من «نافذة» الساحل، حيث لها علاقات وثيقة مع «وجوه أمنية من فلول النظام الزائل»، في حين اتهم مدير العلاقات العامة في الدفاع السورية علي الرفاعي عبر قناة «العربية»، إيران و»حزب الله»، بالوقوف وراء زعزعة الأمن في البلاد من خلال «فلول النظام السابق».
لكن خبراء آخرين يحسمون أن حقبة حكم آل الأسد ولّت إلى غير رجعة، ولا قدرة للمسلّحين الموالين للرئيس المخلوع بشار الأسد على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلّا أن المسألة العلوية تتخطّى بأشواط نظام الأسد ورغبة طهران بموطئ قدم و»ترميم» هلالها المبتور. فالعلويون يجدون أنفسهم خارج «سوريا الجديدة» قيد التشكيل، وتالياً يدفعون ثمناً باهظاً عن آثام آل الأسد.
وشهدت هذه الفاتورة ذروتها أخيراً مع تعرّض مدن وقرى علوية في الساحل لهجمات دموية واسعة النطاق، راح ضحيّتها مئات المدنيين العلويين وعدد غير معروف من المسيحيين في عشرات المجازر التي تسبّبت بتهجير عشرات آلاف الأشخاص، وتخلّلتها عمليات نهب لآلاف المنازل وحرقها، وسرقة ممتلكات وسيّارات، على يد وحدات تابعة لقوات دمشق وجماعات جهادية موالية لها، تضمّ مقاتلين سوريين وأجانب، وفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، الذي وثّق مقتل أكثر من 1300 شخص، بينهم 830 مدنياً يضمّون نساء وأطفالاً، قتلوا نتيجة عمليات التصفية والإعدامات الميدانية.
وبعدما كانت السلطات قد وضعت ما حصل في خانة «بعض الانتهاكات الفردية»، عادت لتستدرك فداحة الجرائم الجماعية، فأغلقت الطرق المؤدية إلى منطقة الساحل وتوعّدت بإحالة المرتكبين إلى المحكمة العسكرية وشكّلت تحت ضغوط داخلية وخارجية، لجنة وطنية مستقلّة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل، على أن ترفع تقريرها إلى الرئاسة في مدّة أقصاها 30 يوماً، إضافة إلى تشكيلها لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي.
اللافت أن السلطات السورية أعادت إحياء مصطلحات النظام السابق التي عفّى عليها الزمن وسردياته التبريرية ومسرحياته المكشوفة، في وقت يجهد فيه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، الذي دعا إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، محذّراً من أن سوريا تواجه محاولات لجرّها إلى حرب أهلية، لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي بهدف رفع العقوبات عن بلاده وجذب الاستثمارات والدعم الخارجي لإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد المتهالك وتدعيم ركائز حكمه، الذي يواجه تحدّيات هائلة تبدأ بالساحل ولا تنتهي مع «الإدارة الذاتية» لشمال سوريا وشرقها، و»الحالة الدرزية» في السويداء و»اللواء الثامن» في درعا.
ليس خفياً على أحد أن إيران تُريد «اقتحام» المشهد السوري مجدّداً، لكنها تواجه «سدّاً منيعاً» تركياً - عربياً - إسرائيلياً، ولو بطريقة غير مباشرة، إذ إن الكباش الإسرائيلي - التركي على أشدّه، بينما يرفض العرب التوغّل الإسرائيلي في جنوب سوريا. كلّ هذا التضارب في مصالح القوى الإقليمية يؤجّج النزاعات على طول «المسرح» السوري وعرضه.
وإذ يتخوّف الخبراء من حال الاحتقان الداخلي السني - العلوي، خصوصاً مع بروز شعارات وتعليقات في العالمَين الواقعي والافتراضي تدعو إلى «طرد» العلويين من سوريا وتُحقّرهم وتقلّل من قيمتهم كبشر، وسط دعوات أطلقتها مساجد في أنحاء البلاد إلى «الجهاد»، يُحذّرون من أن المجازر التي سُجّلت أخيراً قد تكون مجرّد بداية الغيث لما ينتظر سوريا، ما لم تُشكّل لجنة تقصّي حقائق دولية لمحاسبة جميع المسؤولين عن هدر دماء المدنيين منذ أيّام حكم آل الأسد وصولاً إلى مذابح الساحل، لضمان «العدالة الانتقالية»، وما لم يضغط المجتمع الدولي على دمشق لتصويب بوصلة عملية الانتقال السياسي وإشراك كافة شرائح المجتمع فيها.
حماية دولية وحكم ذاتي
يرى الخبراء أن القتل الجماعي في الساحل يُعطي «شرعية» لأي مطالبة بحماية أممية أو دولية، سبق أن ارتفعت أصوات علوية تُطالب بها، لكنهم يجزمون بأن الأمر يبقى مرتبطاً بأولويات القوى الخارجية وأجنداتها، إذ يتصدّر ملف إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم سلّم أولويات الدول الأوروبّية، المنشغلة أصلاً بالغزو الروسي لأوكرانيا واستراتيجيّتها الدفاعية، الأمر الذي يُحتّم عليها الاستمرار بالتعاطي مع دمشق وفق مقاربة «خطوة مقابل خطوة».
أمّا واشنطن، التي تنظر بعين الريبة إلى حكّام دمشق الإسلاميين والتي دعا وزير خارجيّتها ماركو روبيو السلطات السورية إلى محاسبة مرتكبي هذه المجازر بحق الأقليات، فلا تُعطي أولوية لسوريا في المنطقة، بل لـ «اليوم التالي» لما بعد حرب غزة وتوسيع «اتفاقات أبراهام»، فإذا أبدت دمشق رغبة في الانضمام إلى «نادي» الدول المطبّعة مع الدولة العبرية، قد تلقى آذاناً أميركية صاغية.
يبدو أن إسرائيل تضغط على واشنطن دعماً لاستمرار الوجود الروسي في سوريا، باحتفاظ موسكو بقاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية لمواجهة السطوة التركية المتصاعدة على «بلاد الشام». يوضح الخبراء أنه في حال نجاح مساعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الهادفة إلى وضع حدّ للحرب بين روسيا وأوكرانيا، وإذا ما أفلحت موسكو في الضغط على طهران للتفاوض مع واشنطن والقبول باتفاق نووي جديد يُقيّد برامجها النووية والعسكرية ويوقف دعمها لأذرعها في المنطقة، وهذا أمر مستبعد، قد يغضّ الأميركيون الطرف عن التواجد الروسي في الساحل السوري، إلّا أن ذلك يبقى مقترناً أيضاً بقرار السلطات السورية، التي قد تواجه مجموعة من المعضلات الخارجية المتشعّبة التي تُهدّد أُسس حكمها الفتي بمجرّد تلاقيها مع التناقضات الداخلية القابلة للاشتعال السريع.
يجزم الخبراء بأن سوريا لا تستطيع النهوض مرّة أخرى بحكم مركزي، مؤكدين أنه لا بدّ من تطبيق نوع من الحكم الذاتي للجماعات المتمايزة دينياً وإثنياً ولغوياً عن الأكثرية، وهذا يُمكن اتباعه في الساحل والجنوب ومنطقة «الإدارة الذاتية» وغيرها، ضمن ترتيبات وضمانات إقليمية ودولية، إن توفّرت، تمنع الاقتتال الطائفي و»التطهير العرقي». ويعتبرون أن موسكو قد تُصبح بمثابة «ضامن أمني» دولي لمنطقة الساحل، التي يُطالب أهلها بالحماية الروسية.
أمّا إسرائيل، فتحاول «تسويق» نفسها كحامية للدروز جنوباً وربطهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بها، بغية الإمساك بمواقع عسكرية استراتيجية وشقّ «ممرّ آمن» في سوريا، وتسهيل وصولها إلى موارد مائية هي بأمسّ الحاجة إليها. تبقى قضية «الإدارة الذاتية» الكردية شائكة مع أنقرة، وحلّها قد يكون متصلاً بمسار السلام بين تركيا والكرد، بعد دعوة الزعيم الكردي المسجون عبدالله أوجلان التاريخية لـ «حزب العمال الكردستاني» إلى إلقاء سلاحه وحلّ نفسه.
تعيش سوريا مخاضاً عسيراً سيأخذ وقتاً طويلاً لكي يصل إلى «نقطة استقرار»، لكن يتوجّس الخبراء من أن ترتحل البلاد من «حمام دمّ» إلى آخر، ليرتفع معها منسوب «مستنقع دماء» أكثر من نصف مليون سوري قتلوا بعد شرارة 15 آذار 2011، التي غيّرت وجه سوريا وأعادت «تحرير» رواسب التاريخ وأثقاله الجسيمة وأحقاده القاتلة.