عملياً، سعر الصرف صار خاضعاً للتوازنات النقدية في السوق وللدولرة. الخروج من هذه الدوامة ليس أمراً سهلاً، لكنه لا يأتي بلا ثمن. فالمقيمون في لبنان، وخصوصاً أولئك الذين يتقاضون أجورهم بالليرة، يدفعون من مداخيلهم ومن قوّتهم الشرائية ثمن هذه السياسة للحفاظ على «استقرار» سعر الصرف. وهذا الاستقرار لا يتميّز كثيراً عما كان سائداً في السابق، أي إن النموذج الاقتصادي الذي أقرّت فيه السياسة النقدية لا يزال على حاله قائماً على الاستهلاك المستورد المموّل من التدفقات الخارجية. تأتي هذه التدفقات بشكل أساسي من المغتربين اللبنانيين إلى ذويهم في لبنان، ومن المنظمات الأممية لمساعدة النازحين السوريين ولمساعدة النازحين اللبنانيين، فضلاً عن تدفقات تأتي مخصصة لبعض المؤسسات مثل الجيش والقوى الأمنية، وتدفقات غير منظورة تأتي إلى الأحزاب اللبنانية من الخارج. هذا يعني أن النموذج السابق الذي لم يكن يمثّل الإنتاج المحلي فيه والتصدير إلى الخارج نسبة كبيرة من تدفقات العملة الأجنبية، عاد من بين الأموات على ظهر أصحاب المداخيل المحلية وقوتهم الشرائية.

وفي المدة المقبلة، يبدو أن الرهانات على تدفقات كبيرة من أجل إعادة الإعمار، ستنعش هذا النموذج، وستصبح فرصة لإحياء كل أركان النموذج الذين ظننا أنه مات في 17 تشرين الأول 2019. طبعاً ليس النقاش في ما يخصّ مصدر هذه الأموال، ولا على طبيعة الشروط السياسية التي تأتي معها، إنما هذه مجرّد محاولة لتوصيف الواقع تسبق أي نقاش. فالسؤال الأكثر رواجاً الآن على صعيد السياسات النقدية والمالية، هو سعر الصرف وقدرته على الاستقرار في ظل البيئة الراهنة، وهو ليس السؤال الصحيح الذي يجب طرحه. صحيح أن قدرة مصرف لبنان، الآن، على إدارة سعر الصرف بشكل يعبّر عن الاستقرار النقدي، مرتفعة وتمتدّ لأشهر من هذه الوتيرة، إلا أن الحكومة لم تقدّم أي إجابة بعد عن قدرتها في تعديل نموذج الاقتصاد السياسي الحالي لتتواءم مع استقرار في سعر الصرف بأقلّ ثمن ممكن. هل ما ندفعه اليوم من ثمن هو الأقل؟ الأرجح أن القوى السياسية الممثّلة في الحكومة وسائر المؤسسات الدستورية، ستواصل إدارة المرحلة الانتقالية وفقاً للنهج نفسه، أي إدارة التوازنات النقدية، وستدير ظهرها لأي حسابات متصلة بالثمن ومن يدفعه.