المصدر: النهار
الكاتب: فارس خشان
السبت 16 كانون الثاني 2021 11:30:18
هل يقرأ من يرحلون، حتى نكتب عنهم ولهم؟
هل تعني لهم الكلمات شيئاً، حتى نغمّسها بالعطر ونلوّنها بأشعة الشروق ونستعير لها من العندليب نغمة؟
لا أملك جواباً، لأنّه، كلّما تقدّمت بي السنين تعرّى صنم الحتميات، وبات ما كنتُ أظنّه غير معقول حقيقة، وما كنتُ أعتبره وهماً واقعاً.
ولأنّني لا أملك جواباً، أكتب لصديقي الطبيب كميل طويل وعنه، بحبر الروح، علّه يتمكّن من خرق حجاب المادة ليصل إليه، كما كان يصل الشفاء عبر حبّة يصفها دواء، والراحة عبر التفسيرات التي كان يجابه بها ما يعتريني من قلق بسبب أوجاع "غريبة" ألمّت بي.
لا تقولوا لي إنّ الكلمات لا يُمكنها أن تخترق حجاب المادة، لأنّني أقول لكم إن الطبيب الذي سهر على رعاية المرضى ضد الفيروسات، فتك به، في غفلة من الجميع، فيروس كورونا، فأخسرنا إيّاه.
اللامعقول إذا صحّ هنا فهو يصح هناك، فلماذا نتوسّله، حصراً، في الخسارة، ونهمله في الربح؟
وما من ربح أعظم من أن تتمكّن من مخاطبة شخص غالٍ تركك من دون تمهيد، ومن دون وداع، ومن دون وصيّة!
لم يكن كميل طويل شخصاً عادياً. كان مميّزاً بكل شيء. الطب الذي مارسه بتفانٍ لا يصلح وحده للتعريف به، لأنّه كان مثقفاً كبيراً، وفنّاناً حقيقياً، ولبنانياً صميماً، وفرنسياً مخلصاً، وزوجاً نموذجياً، وأباً حنوناً، وصديقاً عزّ نظرائه.
لا يُشوّه هذه الصفات أيّ نوع من أنواع المبالغة، ولهذا فالخاسرون من رحيله أكثر من أن يُحصوا. المرضى خسروا، الأدباء خسروا، المفكرون خسروا، الموسيقيون خسروا، الشعراء خسروا، ولبنان الحلم خسر.
أصدقاؤه يتلمّسون، بموته، هوّة كبيرة يعتقدون أنّ جسرها مستحيل، فمن أين تأتي بشخصية بنبل كميل طويل، وإيجابيته، وكرمه، وجهوزيته، وتفاؤله، وانفتاحه، وتعاطفه؟
لم يخشَ الموت يوماً ولكنّه لم يكن ينتظره. دائماً تعاطى معه على أنّه انتقال من مكان جميل، هو الأرض، إلى رحاب أجمل، هو دار الخلد.
كان يحب الحياة بشغف، ولكنه كان يؤمن بأنّها لا تنتهي مع نهاية الجسد.
وكإيمانه برجاء الحياة الأبدية، كان ايمانه بلبنان الذي بدأ تجهيز الأرضية التي تسمح له بالانتقال نهائياً إليه.
أدرك، بعمق، أنّ لبنان يعيش أزمة عميقة وحقيقية، ولكنّه اعتبر أنّ الأوطان لا تدخل ضمن القضايا التي نتبنّاها إن ربحت ونتخلّى عنها إن خسرت، بل هي من القضايا التي تفرض عليك، شئت أم أبيت، نضالاً لا ينتهي أبداً.
أحبّ لبنان مثل حب معزوفة موسيقية خلّابة، وقصيدة خالدة، ورواية مميّزة، ومثل تفانيه من أجل عائلته.
لم يتوقف، يوماً عن خدمته، طبياً ووطنياً وحزبياً.
كان رائداً في تجمّع خاص بالأطباء اللبنانيين-الفرنسيين فما غاب، يوماً عن لبنان وحاجاته الملحّة، وتحمّس إلى أقصى مدى لـ"ثورة 17 أكتوبر" وكان مؤمناً، حتى افترقت روحه عن جسده، أنّها ستنتصر، يوماً، "لأنّه لا بديل عن الثورة إلّا الثورة"، ووجد في طروحات "حزب الكتائب اللبنانية" برئاسة سامي الجميّل وطنه الحلم، حتى انتُخب نائباً له.
لم تكن أفكار كميل طويل تتقاطع مع توجّهات الكثير من أصدقائه، ولكنّه لم يحاول، يوماً أن يفرضها على أحد. كان يكفيه أن يلمس أنّك تحب لبنان حتى يجد أنّ ما يجمعك به أسمى بكثير ممّا تختلف به عنه.
كانت السياسة في جلساتي الكثيرة معه، عابرة. كنّا نتحدث عن الكتب والشعراء والموسيقى. مكتبته الغنيّة التي استثمر فيها قسماً كبيراً من مدخوله، ستفتقده حتماً. بالأموال التي أنفقها عليها كان يمكن أن يبني قصراً، ولكنّه فضّل أن يورث عائلته...مكتبة.
يا صديقي كميل، ما أصعب أن أكتب عنك.
لو كنتُ أخطّ هذه الحروف على الورق لمحتها دموعي، ولكنّ الكومبيوتر أنقذها.
لو كان الحبر قادراً على أن يعكس الألوان لكانت كلماتي هذه حمراء، مثل دمي الذي كنتَ تطاردني حتى أفحصه.
لو كانت العبارات تتحرّك، لكانت تنبض على إيقاع نبضات قلبي التي كنتَ تحرص دائماً على تفقّدها.
لا أريدك أن تحزن، حيثُ أنتَ الآن، ولكنّ الحياة من دونك، بالنسبة لي ولكثيرين أمثالي، وإن استمرّت، فهي ستكون أقلّ جمالاً، وأندر تفاؤلاً، وأكثر صمتاً.
حزنتُ كثيراً، في العقد الأخير من عمري، ولكن برحيلك، أدركتُ أنّ الحزن أقلّ قسوة من الخسارة.
رحيلك يا كميل هو خسارتي. خسرت طبيبي ومستشاري. خسرتُ ناقدي ومشجّعي. خسرتُ ابتسامتك السمحاء واستقبالك المتلهّف. خسرتُ صديقاً احتلّ منصب الأخوّة.
سأنكب، في الآتي من الأيّام، على أن أتعلّم "استحضار الأرواح" الحقيقي، سأحاول أن أدوّن حواراتنا، سأسعى الى أن أعيد رسم ملامح نفسيتك الطيّبة، سأجهد على تذكير نفسي بنصائحك، سأنكب على قراءة من أحببتَ من الأدباء والشعراء، سأقتني المعزوفات التي كنتَ تعشق، وسأتعاطى مع الحياة، كما لو كانت فعلاً رحلة لعلّنا، في نهايتها نعود ونلتقي.
سلّم على الأصدقاء الذين سبقونا، وإذا التقيتَ بوالدي وشقيقتي فسوف يعرفان، فوراً أنّك، بالصداقة التي جمعتنا، لستَ إلّا واحداً من العائلة.