إلى متحجّري القلوب: "مِش عادي تقوّص كلب"...

جرائم سحل الكلاب، وآخرها في بنت جبيل قبل أيام، تُعاد وتتكرّر. هي مشاهد مألوفة بات أغلب التفاعُل معها لامبالاةً صارخة. الكلاب المتروكة على قوارع الطُرق لا يبزّ رؤيتها قساوةً سوى تلك المدهوسة، المسمومة والمرميّة بالرصاص. الظروف الاقتصادية ذريعة جاهزة لتبرير عمليات التخلّص أو رفض الإيواء. لكن الجنوح إلى أفعال تنضح إجراماً فغير مفهوم. تعنيف الحيوانات، وخصوصاً الكلاب، صار وسيلة تسلية يتباهى بها المعنّفون على وسائل التواصل الاجتماعي. رفعنا الصوت ونعيد الكرّة وقد نبدو كمن يكرّر نفسه. لكن غياب بوادر المحاسبة تدفعنا لرفعه مجدّداً.

مِن قَطْعِ الأطراف إلى اقتلاع الأعين... فالحرق بدَمٍ بارد. سلوكيات موتورة نشهدها بازدياد ضدّ الحيوانات، أكانت كلاباً أو سواها. ما رأيكم، يا سادة، بما قام به مالِك أحد المختبرات الطبية في الدكوانة قبل أسابيع؟ انتزاع قلب أرنبٍ نابضٍ وهو على قيد الحياة في توثيق مباشر لجريمة مقرفة بحقّ مخلوق بريء. القوانين لا تُطبَّق والبلديات تتقاعس. وبين هذه وتلك، ثمة شحّ في التمويل الخارجي لأسباب ليس أقلها المنحى التجاري الذي سلكته جمعيات معنيّة كثيرة. العودة، كالعادة، تبقى إلى المبادرات الفردية. والله يعين المبادرين الفرديّين...

في البقاع... سمّ ورصاص

نذهب بقاعاً ونستمع إلى المتطوّعة في إنقاذ الكلاب الشاردة وإيوائها والاعتناء بها وصاحبة جمعية Bekaa Rescue and Shelter، روعة ماضي. ففي حديث لـ»نداء الوطن»، أشارت إلى تزايُد ملحوظ لظاهرة رمي الكلاب بالرصاص في البقاع، من شماله إلى غربه، كون غالبية سكّان المنطقة يحملون السلاح. وفي زحلة ترتفع حالات التسميم بمادة اللانيت، المحظورة الاستخدام في لبنان. ماضي نوّهت بمساعي القوى الأمنية في المحافظة لملاحقة المعتدين على الكلاب. لكنها لفتت إلى أن العقوبة- التي تقتصر على مصادرة السلاح (في حال لم يكن مرخّصاً) وإجبار المعتدي على التوقيع على تعهّد خطي- ليست كافية لردع الجرائم المرتكَبة ضدّ أضعف حلقات النظام المجتمعي، مطالِبة بأن تصل العقوبة إلى السجن والغرامات المالية المرتفعة.

نطّلع أكثر على عمل الجمعية. فهي تأوي حالياً 200 كلب، 50 منها كانت مرميّة في الطرقات بعد تخلّي أصحابها عنها. المتطوّعون الذين يقارب عددهم العشرين يتوزعون في كافة المناطق البقاعية لتأمين الطعام للكلاب الشاردة، لا سيّما بين المصنع وشتورة، والتنسيق مع الأطباء لمعالجة تلك المصابة وغيرها. لكن ماذا عن عمليات الخصي؟ «إضافة إلى رعاية الكلاب الموجودة لدينا، نقوم شهرياً بخصي 4 إلى 5 إناث شاردة، (إزالة جراحية لجزء من أعضائها التناسلية) تقليصاً بالتالي للأعداد بواقع يقارب الألف سنوياً. ورغم أن بعض الأطباء البيطريّين يتقاضون منّا أجوراً رمزية لإجراء العمليات، غير أننا نحتاج لحملات واسعة النطاق للتمكّن من خصي أكبر عددٍ ممكنٍ والحدّ من التكاثُر»، كما تجيب ماضي.

مسؤولية مشتركة

نسأل عن الجهات المقصّرة فتُحمّل المسؤولية أولاً إلى وزارة الزراعة التي لم تقم يوماً بتأمين اللقاحات رغم أن الأخيرة تصلها بأسعار رمزية، إن لم نقل مجّاناً. «أما المسؤولية الكبرى فتقع على عاتق البلديات. ولو وضعت كل بلدية رسماً بقيمة 50 ألف ليرة فقط على كل منزل، وقامت بتخصيص إحدى مشاعاتها لإيواء الكلاب الشاردة والاهتمام بها وإطعامها وتأمين اللقاحات وخصيها، لما شهدنا- وما زلنا- المعاملة الإجرامية للكلاب والحيوانات الأخرى الشاردة. لكن أصبح مؤكّداً أن البلديات «آخر همّها» وتعتمد علينا نحن المتطوّعين».

«لا ترموها، فلا مبرّر للاستقواء على أضعف حلقات المنزل بعد أن جنيتم عليها بأنفسكم». بهذه العبارات توجّهت ماضي إلى كل من يتخلّى عن حيوانٍ أليف بحجّة الظروف المعيشية الصعبة، معتبرة أن طلب المساعدة من الخارج عبر وسائل التواصل الاجتماعي أفضل من تَرْك الحيوانات لمصيرها على الطرقات. وإذ لفتت إلى ظاهرة خطيرة تتمثّل بارتفاع نسبة الأطفال الذين يقومون بتعنيف الحيوانات، في إشارة إلى تعرّضهم للعنف داخل أُسرهم، شدّدت ماضي على أن الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتربية للحدّ من العنف بشكلٍ عام والوصول إلى مجتمع إنساني شعاره «مِش عادي تقوّص كلب».

الحيّة تأكل النافقة

الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان من مجموعة aWaLebanon، سيدة النوّار، اعتبرت بدورها في اتصال مع «نداء الوطن» أن الجمعيات لم تعد قادرة على الاستمرار بسبب مصاريف الطبابة والطعام والرعاية، وجميعها بالدولار الفريش، لذا يقتصر دورها على متابعة الحالات الدقيقة والخطيرة لا أكثر. أما مراكز إيواء الكلاب، فحدّث ولا حرج: «في بعض الأحيان يصل عددها داخل المأوى إلى 400 بلا طعام أو رعاية صحية أو حتى متابعة طبية. ففي أحد المراكز، ولكثرة الكلاب وعدم القدرة على إطعامها، راحت الحيّة منها تأكل النافقة»، كما تشرح نوار متأسفة. مع العِلم أن مراكز كثيرة تنشط دون ترخيص وبغياب الرقابة ما ينعكس على حالة الكلاب في وقت أصبحت التبرّعات شبه معدومة.

وبعد أن كان الاتّكال على جمعها من الخارج على ضوء غياب المبادرات الرسمية، رأت النوّار أن التبرّعات باتت تأتي بالقطّارة مؤخّراً نتيجة عدم تطبيق المادة 12 من قانون الرفق بالحيوان التي نصّت على دور البلديات في الاهتمام بالحيوانات الشاردة بناء على توجيهات وزارة الزراعة، ما ألقى بحمل التكاليف على الناشطين والمتطوّعين: «تتخطّى تكلفة عملية البتر مثلاً 500 دولار، والكشفية تفوق 50 دولاراً، ولم نتكلم بعد عن الطعام واللقاحات وعمليات الخصي وسواها. نحاول المساعدة من جيبنا الخاص ورسْم صورة جميلة عن الوطن، لكن لا أحد يريد مساعدتنا». مثال يشار إليه هنا وهي جمعية “Gaia Fodoulian Association” التي أنشئت تخليداً لذكرى غايا التي استشهدت في انفجار المرفأ، والتي تضمّ حالياً 98 كلباً تتكفل والدتها بها جميعاً من جيبها الخاص.

من نتائج العدوانية

من أين تأتي الحلول؟ تجيب النوّار أنه «يمكن لوزارة الزراعة، أسوة بحصولها على تمويل من منظمة الفاو لمساعدة المزارعين، أن تطلب تمويلاً لخصي وتلقيح وإطعام الكلاب الشاردة. وأسأل الوزارة عن دورها الرقابي على الجمعيات ومراكز الإيواء والتأكّد من حيازتها الرخص القانونية وسَير العمل داخلها». هي حلقة يجب أن تتكامل بين كل من وزارة الزراعة والبلديات ونقابة الأطباء البيطريّين، غير أن غياب تلك الأدوار حوّل المراكز تلك مقابر جماعية بدلاً من أن تشكّل مرحلة انتقالية تمهيداً لعودة الكلاب إلى المنازل آمنة. الخصي، أولاً، وتطبيق المادة 12، ثانياً، وقيام الجهات المسؤولة بدورها، ثالثاً. هذه هي خريطة الطريق لكبح التصرفات الهمجية التي تطبع المجتمع- للناظر من الخارج- بطابع الإجرام.

وعن خطورة أن يكون الأطفال هم المعنّفون، عزت النوّار السبب إلى طبيعة الحياة التي يعيشها الطفل في المنزل والمفتقِدة لأسس التربية البديهية واحترام الطبيعة والحيوان والبيئة. وأغلب الظن أن الطفل هو الآخر كان- أو ما زال- ضحية لأنواع مختلفة من التعنيف. «ليس ضرورياً أن يحبّ الطفل الكلاب لكن لا بدّ من تنشئته على عدم أذية المخلوقات التي تشاركنا الحياة على الكوكب. فبقدر ما نهتمّ بالطفل في البيت والمدرسة، بقدر ما ينعكس ذلك إيجاباً على المجتمع. إبني، ومن عمر الرابعة، يرافقني لإطعام الحيوانات الشاردة على الطرقات والاعتناء بها، وقد انعكس سلوكه على رفاقه الذين راحوا يقلّدونه. هكذا نخلق جيلاً يتمتّع بسلوك نفسيّ مستقيم، لأن من يحرق كلباً في الصِغر قد يوقد النار بأخيه في الكِبر. حان الوقت لتحويل العدوانية الى رحمة وحبّ واهتمام وعطاء».

الأطباء يتطوّعون... والوزير يسعى

للوقوف عند رأي الطب البيطري، تواصلنا مع الدكتور محمد سكّرية، المرافِق والمتابِع والمساعِد في ملف الحيوانات الشاردة، كما يوصّف لنا مهامه. المسألة شائكة، بالنسبة إليه، وتأخذ منحى تجارياً كون بعض الجمعيات أو من يتجمّعون تحت اسم «ناشطين» يحوّلون العمل التطوّعي إلى وسيلة كسبٍ ومصالح شخصية فتنتهي الهبات الواصلة إلى لبنان بالملايين في الجيوب. أما وزارة الزراعة، فاعتبر أنها لم تقدّم يوماً أي مساعدة معنوية أو مادية في هذا الخصوص، لذا تقع المسؤولية على عاتق البلديات لناحية تأمين الهبات من الخارج وقيام كل اتّحاد بلديات بتوفير قطعة أرض مصوَّنة لجمع الكلاب بعد خصيها. دور وزارة الداخلية محوريّ أيضاً كونها سلطة الوصاية على البلديات ومخافر الدرك وقوى الأمن، «لكن للأسف ما حدا سائل عن حدا. نتّصل بالمخفر فلا أحد يجيب، وإن أجابوا يتعذّر الوصول إلى المدّعي العام. لا عقاب ولا محاسبة... هي حالة من الاستهزاء والاستلشاق تجاه قضايا تسميم الكلاب وتعنيفها».

بعض الأطباء البيطريّين، وفق سكّرية، يتطوّعون لإجراء عمليات الخصي أو البتر مثلاً بسِعر الكلفة وأحياناً مجّاناً، مساهمة في الحدّ من الأمراض والتكاثر. وهناك تعاون إرشادي مع البلديات، على غرار ما حصل في بلدية الدكوانة منذ قرابة أربع سنوات، حيث تمكّنت من جمع الكلاب الشاردة في المنطقة وإيوائها. «وكانت الخطوة التي أقدم عليها رئيس بلدية بعلبك مؤخّراً جيّدة لكنها لم تُتابَع وصولاً إلى الخواتيم المرجوّة». سكّرية أصرّ على ضرورة معالجة العقلية الجرمية في المجتمع تربويّاً وثقافيّاً. وأسف لاستمرار استخدام مادة اللانيت- التي تُشحن من الصين في كونتينرات ملغومة أو عبر الحدود السورية المفتوحة- لتسميم الكلاب. كما أكّد أن تعنيف الأطفال المتزايد للحيوانات دلالة على أن من يُعنَّف من قِبَل أولياء أمره إنما يبادِل الأضعف منه بالمثل.

جميع من استمعنا إليهم تطرّقوا إلى دور وزارة الزراعة المفقود. في دردشة سريعة مع «نداء الوطن»، أكّد الوزير عباس الحاج حسن سعيه الدائم لطرح الأمر أمام الهيئات المانحة، غير أن الأخيرة تُعطي الأولوية للقطاع الزراعي والأمن الغذائي. «هذا لا يعني إطلاقاً أن اللقاحات غير متوافرة، لكنها مخصّصة للأغنام والأبقار والماعز. أما مسألة الحيوانات الشاردة، فيجب أن تتضافر الجهود بشأنها بين الوزارة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني». وإلى حينه، تبقى السلامة العامة مستباحة وعمليات التسميم والقتل (غير الرحيم) متواصلة.