إمّا سلاح "الحزب" وإمّا إعادة الإعمار

لا انسحاب كاملاً من الجنوب، وقوات العدو باقية على التلال الخمس بموافقة أميركية غير معلنة، ولكن بتفهّم دائم للدواعي الأمنية الإسرائيلية. ومع التوغّل في الأراضي السورية واحتلال قمم جبل الشيخ، لم يعد ممكناً توقّع متى ينتهي الاحتلال في هذه المناطق المتّصلة على الجانبين.

سوريا تحرّرت من نظامها المستبد ومن الوجود الروسي والإيراني، وتنكبّ حالياً على ترتيب وضعها الداخلي، وهو أمر سيطول جداً، وقد ينجح وربما لا، غير أن إسرائيل التي ساهمت في سقوط الحليف الأسدي ما لبثت أن استغلّت الحدث وجعلته منقوصاً باحتلال منطقة تسمّيها "عازلة" لتحصين "هديّة" دونالد ترامب/ "السيادة" غير الشرعية على الجولان. ومع أن واشنطن فتحت قناة اتصال مع الحكم الجديد في دمشق، إلا أن قراراتها بالنسبة إلى العقوبات لا تبدو داعمة، بدليل شكاوى الدول الراغبة في المساعدة.

أما لبنان الذي بات جاهزاً وأكثر تأهّلاً لاستعادة دولته، فلديه استحقاق رئيسي لن يكون للولايات المتحدة وإسرائيل أي تسامح أو تساهل حياله: نزع سلاح "حزب إيران/ حزب الله" وتفكيك بنيته العسكرية. ولا يفوّت الأميركيون والإسرائيليون مناسبة إلا يذكّرون بهذا الهدف. ففي تبرير وقف المساعدات للبنان، نُسب إلى المصادر الأميركية أن هذا القرار يسري على كل الدول، بغية "مراجعتها لضمان كفاءتها وتوافقها" مع السياسات الأميركية، لكن أكثر ما يلفت فيه أنه يشمل أيضاً المساعدات المخصصة للجيش اللبناني وبعض المؤسسات، أي أن واشنطن غيّرت نهجها التقليدي وباتت تشترط "الإنجازات أولاً" مقابل الأموال. في ضوء ذلك يكون التلاعب باتفاق وقف النار ومنح إسرائيل "حق" التحرّك كيفما تشاء، واحتلال التلال الخمس، من وسائل الضغط على الدولة لتضغط بدورها على "الحزب"، الذي يتجاهل الأمر كأنه لا يعنيه، بل "يحمّل الدولة مسؤولية تأمين الانسحاب الإسرائيلي الكامل". 

سيبقى هذا الاحتلال الإسرائيلي إلى أجل، وبالمعطيات الحالية فإن "الحزب" هو الذي سيحدّد هذا الأجل، معتمداً على اعتبارات واهية يجب ألا تتوقف الدولة عندها. فالدولة تعامله على أنه جزء من الشعب، على رغم أنه اعتبر الدولة دائماً جزءاً من أدوات عمله. و"الحزب" يجد في استمرار الاحتلال الذي تسبّب به تحدّياً للدولة أولاً ووسيلة للمفاضلة بينه وبينها في مواجهة العدو، وهو ينسى أو يتناسى أن الدولة ممثلة بالحكومة التي هيمن عليها لم تتخذ قرار الحرب ولم توافق عليه. وحتى هذه الحكومة راعته حين كان يقاتل العدو، وارتضت الاتفاق الذي وقّعه، ومع تغيّر العهد والحكومة حانت لحظة المحاسبة، لكن "الحزب" يتجاهل واقعه والواقع اللبناني ويبدو كأنه هو من يريد محاسبة الدولة.

لذلك يتّبع "الحزب" تكتيكاً صار تقليدياً في مسارات تعطيل التي نجح فيها سابقاً، مع علمه بأنه إزاء حكم وحكومة مختلفين. فالمشاغلة الداخلية المفتعلة، من مسيرات الجنوبيين العائدين، إلى "عراضات الموتوسيكلات"، إلى قطع طريق المطار والاعتداء على الجيش و"اليونيفيل"، إلى مواجهات مقبلة يُخطّط لها... كلّ ذلك يرمي إلى تأجيل أي مساءلة في شأن السلاح، والتغطية على مأزقه الداخلي، مع الإيحاء بأنه "نمر جريح" ينبغي ألّا يُستَفزّ.

لم يصدّق أحد بيانات "الحزب" وحتى حركة "أمل" المتنصّلة من التجاوزات، فهي تشير إلى أحد أمرين: إما أن قدرتهما على ضبط شارعهما متلاشية، وإما لديهما مصلحة في استشراء الفوضى والانفلات. في الحالين، لا بدّ للدولة أن تحسم، وإلا فإنها تجازف بإسقاط كلّ رهاناتها على مساهمات الخارج بالنسبة إلى إعادة الإعمار ومعالجة الأزمة الاقتصادية، مقابل احتفاظ "الحزب" بسلاحه.