إيران تجاوزت حدود السياسة وأدرجت لبنان ضمن نطاق قرارها الاستراتيجي

رفع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي سقف تدخله في لبنان من خلال تصريح جديد أكد فيه أن قرار الحكومة حصر السلاح سيفشل وأن "إيران، من موقعها الداعم، تواصل تقديم الدعم للحزب". هذا التصريح، كسابقاته، يعيد طرح سؤال جوهري في الحياة السياسية اللبنانية: ما حجم التدخل الإيراني؟ وما حدوده؟

طوال السنوات الخمس عشرة الماضية، لم تكن العلاقة بين إيران ولبنان مجرد علاقة صداقة أو دعم سياسي، بل بلغت حدا جعل من لبنان ساحة نفوذ مباشر لطهران، وربطت قراراته السيادية بمصالح خارجية.

ويبقى الدعم العسكري واللوجيستي لـ"حزب الله" حجر الزاوية في التدخل الإيراني. فالحرس الثوري الإيراني لم يكتف بتمويل الحزب، بل قام بتدريبه، وتسليحه، وتطوير قدراته الصاروخية، ولا سيما في مجال الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة تحت شعار ما بات يعرف بـ"الردع الإقليمي" بوجه إسرائيل، لكنه في الواقع كرس أيضا واقع السلاح غير الشرعي في لبنان، ما ساهم في إضعاف هيبة الدولة ومؤسساتها.

من أبرز محطات التدخل العلني، تصريح عراقجي في بيروت خلال الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل في تشرين الأول الماضي، إذ قال بوضوح:

 "نحن لا نؤمن بوقف الحرب في ظل العدوان، وندعم حق حزب الله الكامل في الرد، وإيران لن تقف مكتوفة الأيدي إذا استهدف لبنان مجددا".

هذا التصريح الذي أطلقه من بيروت، شكّل تحديا واضحا للسيادة اللبنانية، إذ بدا أن طهران تتحدث باسم محور الممانعة من قلب بيروت، وترسم خطوط المعركة وحدود الردع، في لحظة حساسة كان اللبنانيون خلالها يدفعون ثمن الحرب اقتصاديا وأمنيا، عدا عن الإعلان الشهير لمستشار المرشد الإيراني الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي،، أن إيران تسيطر على 4 عواصم عربية من ضمنها بيروت.

إلى ذلك، تمكنت إيران عبر "حزب الله" من ترسيخ نفوذها داخل المؤسسات السياسية اللبنانية، من الفراغات الرئاسية إلى فرض مرشحين وتشكيلات حكومية. هذا النفوذ ترجم بتعطيل مشاريع سيادية مثل "إعلان بعبدا"، أو السعي إلى حصرية السلاح بيد الدولة. وارتبط دعم إيران بحركات سياسية لبنانية أبرزها حركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" في مراحل معينة.

 

 

 

لا يقتصر التدخل الإيراني على الجانب السياسي والعسكري، بل يمتد إلى التمويل الاجتماعي والاقتصادي، عبر مؤسسات مثل "القرض الحسن" أو المستشفيات والمدارس التابعة للحزب. هذا الدعم أرسى اقتصادا موازيا في البيئة الحاضنة للمقاومة، ما أسهم في تفكك النموذج الاقتصادي الوطني.

وفي السنوات الأخيرة، برز الإعلام الموجّه أداة مركزية للنفوذ الإيراني. قنوات مثل "المنار" و"الميادين"، وصحف مثل "الأخبار" وعدد كبير من المنصات الإلكترونية والمواقع السياسية الإكترونية والمراكز الثقافية والحوزات الدينية المرتبطة بالولي الفقيه، أدت دورا في ترسيخ خطاب "الممانعة" وتبرير خيارات الحزب داخليا وخارجيا. كذلك تم تشجيع "الولاء العقائدي" لإيران على حساب مرجعيات شيعية أخرى.

ولم يكن لبنان في منأى عن سياسات طهران الإقليمية. فمنذ اندلاع الحرب السورية، تحولت الحدود اللبنانية - السورية إلى ممر عسكري إيراني، وشارك "حزب الله" بفاعلية في الدفاع عن النظام السوري، بدعم مباشر من إيران. كذلك، أصبح لبنان ورقة في المفاوضات الإيرانية مع الغرب، سواء في شأن البرنامج النووي أو ملفات اليمن والعراق.

تأثير السيطرة أدى إلى غضب دول الخليج العربي، وهو ما ترجم في أكثر من مناسبة أزمات ديبلوماسية حادة، وتضييقا اقتصاديا على اللبنانيين في الخليج. وقد انعكست هذه التوترات سلبا على موقع لبنان العربي، وزادت عزلته الإقليمية في لحظة هو في أمّس الحاجة فيها إلى دعم خارجي.

في المحصلة، فإن تصريحات وزير الخارجية الإيراني، سواء الأخيرة أو تلك التي أطلقها أثناء الحرب مع إسرائيل، تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن إيران تجاوزت حدود الدعم التقليدي إلى مستوى المشاركة السياسية والعسكرية المباشرة، بل باتت تتعامل مع لبنان كأنه جزء من جغرافيا القرار الإستراتيجي الخاص بها.