إيران تحضّر "الوعد الصادق 3" للتصعيد بوجه إسرائيل

أرسلتْ إيران إشاراتٍ متضاربةً إلى المجتمع الدولي والدول المجاورة في الشرق الأوسط في شأن نياتها المستقبلية ضد إسرائيل وسط تَصاعُد التوترات الإقليمية.

ورغم أن طهران أشارتْ إلى رغبتها في تجنّب تصعيدِ التوتر إلى مستوى الحرب الشاملة، فقد أوضحتْ أن هذا الضبْطَ مشروطٌ بتَراكُمِ التطورات.
وتحضّ طهران على وَقْفٍ فوري للعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، خصوصاً أنها لن تسمح بهزيمة «حزب الله»، وذلك بعدما ألحقت الهجمات الإسرائيلية أضراراً لا يستهان بها بالحزب، بما في ذلك اغتيال قادة رئيسيين وتدمير شبكات الاتصالات ومستودعات الإمدادات، ولكن من دون هزيمته.

ومع ذلك، ترى طهران أن هذه الخسائر قابلة للتعويض وأظهرت مرونةً من خلال ردود الفعل الانتقامية والتعديلات الاستراتيجية، ما يشير إلى استعدادها لمزيد من التصعيد إذا لزم الأمر.

تأثير انتخاب ترامب

ومن المرجح أن تظلّ نياتُ إيران في الرد على إسرائيل غير متأثّرة بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، نظراً لأنه لن يتولى منصبه حتى 20 يناير المقبل.

وفي الأمد القريب، قد تَبقى طهران على حساباتها الإستراتيجية الحالية، مدركةً أن الإدارة المنتهية ولايتها، وليس ترامب، هي التي تسيطر على السياسة الخارجية الأميركية والقرارات العسكرية حتى اكتمال عملية الانتقال.

ومع ذلك، فإن انتخابَ ترامب قد يؤثّر على نهج إيران في التعامل مع الصراع الأوسع مع إسرائيل.

فقد تتبّنى إدارته موقفاً أكثر مواجهة مع طهران، وهو عامل ربما تأخذه الأخيرة في الاعتبار في عملية صنع القرار، خصوصاً إذا توقّعت تصعيدَ الدعم الأميركي لإسرائيل.

ومن المرجَّح أن تزن إيران هذه الاحتمالات طويلة الأجَل، لكن من دون أن يؤثّر ذلك في هدفها المباشر وأولويّتها المتمثّلة في دَعْمِ حلفائها في غزة ولبنان.

وفي نهاية المطاف، في حين أن انتخاب ترامب يرسم شكوكاً مستقبلية، فمن غير المرجح أن يغيّر بشكل جذري الخطط الفورية لإيران، ولا سيما في الفترة الانتقالية التي تمنح طهران الوقتَ لقياس التحولات المحتملة في السياسة الأميركية.

الرسائل الإستراتيجية

لقد أطلقتْ طهران «عملية الوعد الصادق» على مراحل في إطار إشارات صريحة لإسرائيل والولايات المتحدة، إلى استعداد إيران للرد بعدما تعرَّضتْ لهجوم على قنصليتها. وتضمّنتْ المرحلةُ الأولى، عملية «الوعد الصادق 1»، إطلاقَ صواريخ بالستية، أكثرها من الجيل القديم ومن المسيَّرات من مسافة 1600 كيلومتر، كرسالة تحذيرية إلى إسرائيل، بهدف تحدي حصانتها وتبديد فكرة قوّتها المُطْلَقَة المُهَيْمِنَة التي لا يجرؤ أحدٌ على تَحدّيها.

وفي «الوعد الصادق 2»، صعّدت إيران من ضرباتها بشكل كبير، حيث شنّت هجوماً صاروخياً أكثر أهمية كَشَفَ نقاطَ الضعف في أنظمة الدفاع الصاروخي وقدرات الاعتراض المتقدّمة الإسرائيلية.

ويشكل صاروخ «خيبر شكن 2» الفرط صوتي - الذي استخدمتْه إيران في ضربتها الأخيرة - والذي يصل مداه إلى 1800 كيلومتر، تحدياً هائلاً بسبب سرعته ومسار طيرانه غير المنتظم والمُراوِغ وغير المتوقَّع داخل الغلاف الجوي ما يعقّد قدرة أنظمة الرادار الإسرائيلية على اكتشاف الصاروخ وتَتَبُّعه بدقة لإسقاطه.

كما استخدمت طهران صاروخها الفرط صوتي «خرمشهر 2»، الذي يصل مداه إلى 2000 كيلومتر، ويتمتّع بقدرات متقدمة على المراوغة والمناورة، خصوصاً خلال المرحلة النهائية، ما يجعل اعتراضه أمراً صعباً للغاية.

ويمكن أن يحمل الصاروخ رأساً حربياً واحداً كبيراً يزن بين 1500 و1800 كيلوغرام لإحداث تأثير مدمّر كبير، أو يمكن تهيئته لنشْر ما يقترب 30 إلى 40 ذخيرة فرعية أو عشرات القنابل الصغيرة العنقودية لتغطية مساحة أوسع عند الاصطدام. وفي حين أن التكوين الأخير يقلّل من مداه، فإنه يزيد من تغطية منطقة الهدف.

ويَستخدم الصاروخ مسار «الانزلاق المتخطي» الذي يُبْقيه داخل الغلاف الجوي، ما يسمح له بتغيير الارتفاع والسرعة بشكل غير متوقَّع تصل إلى 8 ماخ (9878 كم / ساعة). وهذا يجعل الكشف المبكّر وتتبُّع الرادار أكثر صعوبة ما يُجْهِدُ شبكات الدفاع، بما في ذلك «أرو 3» و«مقلاع داود» و«القبة الحديدية»، الأمر الذي يؤكد حدود قدرات إسرائيل في مواجهة التقدم التكنولوجي للصواريخ الإيرانية.

الدعم الأميركي ونظام «ثاد»

رداً على القيود الدفاعية لإسرائيل، عزّزت الولايات المتحدة دعمَها من خلال نشْر بطارية واحدة على الأقلّ من أنظمة الدفاع الصاروخي للارتفاعات العالية للتخفيف من التهديد الذي تشكّله الصواريخ الفرط صوتية، مع القدرة على اعتراض ما بين 40 و80 صاروخاً في حال نشْر بطاريتيْن من أنظمة «ثاد».

ورغم محاولات التقليل من تأثير العمليات الصاروخية الإيرانية، فقد أكدت صور الأقمار الاصطناعية الأضرارَ التي لحقت بالعديد من المواقع الإسرائيلية، بما في ذلك قاعدة نيفاتيم الجوية المحصَّنة بشدة، والتي تضم أسطول مقاتلات «إف - 35».

ومن خلال استهداف نيفاتيم، أظهرتْ طهران قدرتها على الوصول حتى إلى الأصول الأكثر استراتيجية لإسرائيل، ما يشير إلى استعدادها العملياتي الواضح للتصعيد إذا لَزْمَ الأمر.

الاستهداف الدقيق وضبط النفس

قامت إستراتيجية إيران على تَوازُن دقيق بين الانتقام وضبْط النفس. وتجنّبت في هجومها البنية التحتية الحيوية والمناطق المدنية والأحياء التي تتعايش فيها المواقع العسكرية مع السكان المدنيين، مثل منشآت جهاز «الموساد». ويهدف هذا النهجُ المحسوبُ إلى منْع الانتقام المفرط مع تعزيز قدرات الردع الإيرانية.

وقد ركّزت طهران ضرباتها الصاروخية على أهداف محدَّدة عالية القيمة بَدَلَ توزيعها على نطاق واسع، وبالتالي تعظيم التأثير وإرهاق الدفاعات الإسرائيلية.

فمن خلال إغراق أنظمة الاعتراض بوابل من الصواريخ الموجَّهة، تُظْهِرُ حدود قدرات إسرائيل الدفاعية ونقاط ضعف تكنولوجيا أنظمة الاعتراض.

هذا التصعيد المحسوب، تسعى إيران عبره إلى إظهار دعمها للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، مع رسالةٍ إلى تل أبيب بأن المزيد من العدوان سيستدعي ردود فعل متناسبة. ويهدف نهج طهران إلى منْع إسرائيل من إطالة أمد حملاتها العسكرية، والسعي إلى وضع إيران كقوة استقرار داخل المنطقة - وهو الموقف الذي يعزّز نفوذَها في الشرق الأوسط.

الضرر الذي لحق بإيران

استندتْ التقديرات حول أضرار الضربات الإسرائيلية في 26 أكتوبر 2024 ضدّ مجمع بارشين وكرج وأصفهان وشيراز، إلى مزيجٍ من التقارير الإقليمية وصور الأقمار الاصطناعية وتصريحات من مصادر قريبة من الاستخبارات العسكرية.

ولم يكن هناك تأكيد بصور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة لكل المواقع، ولا من خلال البيانات العسكرية الإيرانية أو الإسرائيلية الرسمية.

مجمع بارشين (شرق طهران):

أظهرتْ تحليلاتُ الصورِ ومصادر استخباراتية متعددة، أضراراً مرئية في المنطقة، خصوصاً للهياكل التي يُعتقد أنها مرتبطة بإنتاج الصواريخ. وقد أكدت التقييمات المستقلّة التقاريرَ عن وقوع انفجارات مؤكدة.

كرج (تطوير المسيرات):

تستند التقارير حول الضربات بالقرب من كرج التي أثّرتْ على مرافق إنتاج الطائرات من دون طيار إلى مصادر موثوقة. وفي حين أن أنشطة تصنيع المسيرات في كرج معروفة جيداً، إلا أنه لم يتم التحقق من تقييمات الأضرار المحدَّدة من خلال صورٍ عالية الدقة.

أصفهان (منشآت الدفاع الجوي والصواريخ):

أشارت مصادر إعلامية ومحللون إقليميون إلى الضربات التي تم الإبلاغ عنها في أصفهان ولكنها تفتقر إلى التأكيد البَصَري التفصيلي.

ويتوافق وجود أنظمة الصواريخ والدفاع الجوي في المنطقة مع البنية التحتية الإيرانية المعروفة، لكن هذه التقارير تفتقر إلى تأكيد رسمي.

شيراز (البنية التحتية لإطلاق الصواريخ البالستية):

إن نتائج الضربات التي استهدفت البنية التحتية للصواريخ البالستية في شيراز، تَعتمد في المقام الأول على تقارير استخباراتية من دون أدلة بصرية غير مؤكدة.

التداعيات الإقليمية الأوسع والتورط العراقي المحتمل
سلّط الصراعُ الجاري الضوءَ أيضاً على الاحتمال المتزايد لانخراط جماعات في العراق من حلفاء إيران.
فقد صعّدت المقاومة العراقية من هجماتها بالمسيرات، في أعقاب تقارير عن توغلات إسرائيلية في المجال الجوي عبر العراق وانتهاكات للاتفاقيات الضمنية التي تنص على عدم انخراط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع.
وتمثّل عمليات المسيرات المكثّفة التي تشنّها الجماعات العراقية، والتي تَستهدف مرتفعات الجولان المحتلة، وربما حيفا، توسعاً كبيراً في النطاق الجغرافي للصراع.
وبالنسبة لهذه الجماعات، فإن هذه الإجراءات هي ردّ على ما تراه استفزازات، وهدفها ردع إسرائيل والولايات المتحدة عن استخدام أراضي العراق لضرْب إيران.
وقد ردّد حلفاء إيران الإقليميون موقفَها، ما عزز الرسالة التي مفادها أن السياسات التوسعية والإجراءات العسكرية الإسرائيلية ستواجِه مقاومةً منسقة في كل أنحاء المنطقة.
ويؤكد هذا الضغط المتزايد على رسالة أوسع نطاقاً: الحملات العسكرية الإسرائيلية غير المنضبطة في غزة ولبنان، محفوفة بخطر إشعال صراع إقليمي أوسع نطاقاً.
الأهداف الإستراتيجية الإيرانية ونفوذها الإقليمي
إن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتْها إيران هي جزءٌ من هدف استراتيجي أوسع: تعزيزُ الصورة التي تريد تسويقَها عن نفسها كحارس للمصالح الفلسطينية واللبنانية، في حين تتصدّى للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
ومن خلال تحدي التفوق العسكري الإسرائيلي، تهدف طهران إلى تحويل ميزان القوى، وكسْر سمعة إسرائيل في الهيمنة الإقليمية.
إضافة إلى ذلك، فإن إيران لديها القدرة على التأثير على المنطقة، ما يجعلها هدفاً استراتيجياً رئيسياً.
وتهدف الهجمات الصاروخية المستقبلية إلى تحدي ما يشاع عن التدهور المفترض لقدراتها الصاروخية.
وقد تَناقَضَتْ مَزاعِمُ إسرائيل عن أن برنامج إيران الصاروخي عانى انتكاساتٍ لا يمكن إصلاحها مع تهديداتِ طهران بشنّ ضرباتٍ معقّدة وعالية التأثير على أهداف إسرائيلية، وهي المزاعم التي ستَسقط بالكامل في حال إقدام إيران على توجيه ضربة لاسرائيل.
لكن، ومن وجهة نظر إيران، فإن تأمينَ وقف نار دائم يَتماشى مع أهدافها المتمثلة في الاستقرار الإقليمي، حيث إن الحرب المطوّلة مع إسرائيل تحمل مخاطر كبيرة على الأمن الإيراني والإقليمي.
ويمثل التوتر المتصاعد بين إسرائيل وإيران منعطفاً حاسماً في الشرق الأوسط، مع آثار أوسع نطاقاً على الاستقرار العالمي.
وتعكس ردود الفعل المحسوبة من جانب طهران الرغبةَ في التصعيد فقط لخفْض التصعيد، بهدف التوصل إلى وقف نارٍ في نهاية المطاف مع تَجَنُّبِ حرب إقليمية شاملة. فالصراع المباشر مع إسرائيل لن يكون ضاراً لكلا البلدين فحسب، بل قد يؤدي أيضاً إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي، نظراً للأهمية الاستراتيجية للمنطقة.
وقد أدى غياب الولايات المتحدة كوسيطٍ استباقي إلى تَفاقُم حالة عدم اليقين، حيث يُشكل انتقال السلطة إلى إدارة أميركية جديدة في يناير نافذةً من التقلّبات المحتمَلة.
وفي هذه البيئة عالية المخاطر، تواصل إيران توجيه رسائل ضبط النفس، مصحوبة بعروض القوة التي تؤكد على قدراتها وأهدافها الإستراتيجية.