إيران تفقد رهائنها

تتصرف إيران بذعر حيال خسارة نفوذها في سوريا. يكفي الاطلاع على تصريحات المسؤولين الإيرانيين، من أعلى السلطة إلى وزارة الخارجية مروراً بضباط الحرس الثوري، لاستنتاج حالة فقدان توازن، وارتجال ركيك للسياسة الخارجية بشكل عام. يخفي هذا التصدّع في الواجهات الخارجية لنظام الجمهورية الإسلامية نقاشاً داخلياً، سيأخذ أبعاداً خطيرة بشأن هزيمة نكراء لعقائد الدولة وسقوط عصر "تصدير الثورة".

لا تقوم سياسة نشر النفوذ الإيراني بالمنطقة على وجهة نظر أو خيار من ضمن خيارات أخرى. فالمسألة قاعدة مركزية في فلسفة حماية نظام الوليّ الفقيه وضمان بقائه. صحيح أن طهران اشتغلت على صناعة قنبلة نووية تقيها شروراً محتملة تنال من مناعة النظام الإسلامي، غير أن الفخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية اتّخذتها رهائن، كان ضرورة لصرف الأنظار عما تنتجه مفاعلاتها النووية من ثمار باتجاه العبور إلى نادي الدول النووية في العالم.

يعرف أهل الحكم في إيران أن خسارة متدرّجة حتميّة لتلك العواصم العربية يقود حتماً إلى سقوط طهران. قام نظام الجمهورية الإسلامية على زاد عقيدي يبرر شرعية حكمٍ أطاح بحكم الشاه. وقامت تلك الشرعية على الوعد بالقضاء على "الاستكبار" وجعل الثورة مساراً دائماً وجب إشعالها في بلدان الدنيا، القريبة أولاً، من أجل تحقيق ذلك. فإذا ما فقدت إيران العواصم، وتلاشت قوى ميليشياتها، وسددت سوريا ضربة قاصمة ونهائية لعصر إيران في المنطقة، فإنه منطقي أن يسائل نظام الجمهورية نفسه عن أي شرعية سيسوّقها للدفاع عن بقائه.

لا يستطيع نظام الوليّ الفقيه أن يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى نظام سياسي "عادي" يهدف إلى إدارة البلد ورفع مستوى اقتصاده ورعاية رفاهية شعبه ونسج علاقات "عادية" مع دول العالم داخل النظام الدولي. فإذا كان على النظام الذي يحكم البلد منذ عام 1979، أن يصبح "عادياً"، فما مبرر استمراره قابضاُ على راهن الإيرانيين ومستقبلهم. وإذا كانت إيران ستدخل عصر تلك "العادية"، فإن البلد لا يمكن أن يحتمل استمرار بقاء منظومة حكم تنهل دستورها من عقائد ماضوية استثمرت بها كثيراُ لنشر ثقافة وتقاليد أضرت بإيران، أولاً، قبل أن تفتك بالمحيط.

استشرفت طهران سوء الحال منذ سنوات. سعت في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان إلى تقديم وجبات انفتاح على دول الجوار. طوت صفحات قطيعة مع دول الخليج توّجت بإبرام اتفاق بكين مع السعودية في آذار/ مارس 2023، وراحت تدق أبواب القاهرة للحوار. لاحقاُ عملت على هندسة انتخابات رئاسية تأتي بالإصلاحي المعتدل مسعود بزشكيان. بدا أن طهران تحتاج إلى خطاب هذا الرجل بالذات في الوعد بمصالحة منظومة الغرب والوصل مع "الأخوة" الأميركيين.

غير أن عقارب التاريخ ليست إيرانية، ولطالما فرضت توقيتها على الأجندات الطموحة. أطاح حدث "طوفان الأقصى" بالبنى التحتية لإيران في الشرق الأوسط. فقدت إيران في تلك اللحظة زمام المبادرة وحصافة القرار ورشاقة التعامل مع الحدث الكبير.

بدا أن "غزوة" أسامة بن لادن في نيويورك في 11 أيلول 2001 حملت ثماراً إلى طهران، وسّعت من حدائقها الخلفية، وحملت أميركا، في عهد الرئيس باراك أوباما، على إهدائها اتفاقاً نووياً في فيينا.

وبدا أن "طوفان" يحيى السنوار أحدث زلزالاً، تتمدد ارتداداته منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليطال كيان نظام الوليّ الفقيه ومبرر بقائه، فيما تبدو أميركا في عهد دونالد ترامب المقبل تحمل نذير شرّ وسواد مصير.

وفيما يزور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني طهران لبحث العلاقات "العادية" بين البلدين، تتأمل طهران تصدّع سطوتها على العراق، وتراجع نفوذها في بيروت بعدما فقدت دمشق، وتترك صنعاء تواجه مصيرها المقبل. قبل أسابيع كان المرشد يعِدُ بالشرفاء لتحرير سوريا، و"يبشّر" وزيرُ خارجيته بـ"تطوّرات" ستغير الوضع هناك. باتت الديبلوماسية في طهران تعتمد لهجة مرنة خالية من تهديد ووعيد، فيما تخرج أصوات من إيران تتحدث عن هزيمة قاسية في هذا البلد.

ولئن ترك النظام السوري الساقط فلولاً وراءه، فإنه يجري ضبط الميليشيات الولائية في العراق، وتجري ملاحقة من توارى منهم في سوريا، أما إيران فيسعى حزبها في لبنان إلى التلويح بيأس بـ"7 أيار" جديد، مطلقاً دراجات صوب مطار العاصمة لفك "أسر" طائرة إيرانية، يجري بشكل "عادي"، تفتيشها والتحقّق من خلوها مما يهدد سكينة عاصمة كانت مصنّفة يوماً داخل لوائح الرهائن الأربع في المنطقة.