إيران تواصل حربها من لبنان وعلى حسابه

من حيث الشكل بداية، شكلت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لبيروت ولو تحت عنوان نقل مساعدات إنسانية إلى لبنان، في ظل القصف الإسرائيلي المستمر للضاحية ومواقع "حزب الله"، تحدياً في حد ذاتها لكل من إسرائيل والولايات المتحدة بأن إيران لن تتهاون إزاء نفوذها في لبنان ولها حصتها في التفاوض، أو بالأحرى موقعها الأساسي الذي لن تتنازل عنه بالإصابات القاسية التي أضعفت "حزب الله" . كان هذا أبرز شق من الرسالة الإيرانية مباشرة بعد زيارة محسن قمي، أحد كبار مساعدي المرشد الإيراني لبيروت ولقائه مسؤولين أبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري. مظهر القوة هو ما تحتاج إليه إيران في هذه المرحلة، فيما كان سبق مضمون الخطاب الذي أدلى به المرشد الإيراني علي خامنئي في الإصرار على أن "جبهة المقاومة لن تتراجع" وإسناد "حزب الله" لغزة ما أعلنه عراقجي من بيروت عن التمسك بشرط ربط مصير الحرب على لبنان بمصير الحرب على غزة. لم يأبه الوزير الإيراني وهو يطل بطائرته على العاصمة اللبنانية وتهبط على نحو فردي ووحيد في مطارها المشرف على الضاحية الجنوبية بالدمار الحاصل فيها. أتى مسارعاً لإسناد الحزب على خلفية الضربات المتتالية التي يتلقاها من أجل إبقاء ورقة لبنان حية حتى لو أن مواصلة ربط حرب لبنان بحرب غزة قد يعني تصعيد حرب إسرائيل للإجهاز على ما تبقى من قيادات الحزب والحركة.

المرشد الإيراني تحدث عن معادلة "لن يقودنا التسرع والانفعال" بالنسبة إلى إيران وعدم انتقاد الحزب على حرب إسناده غزة. الدعم الإيراني للحزب على رغم كل الخسائر التي أصابته إنما يستند إلى أمرين أساسيين: الأول هو عدم تراجع طهران وقد استفادت من الزخم الذي أحدثه هجومها على إسرائيل والتي نجحت فيه على غير هجوم 13 نيسان الماضي في إحداث خسائر إسرائيلية من خلال إصابات لمواقع وقواعد مهمة لديها. إذ فيما الدينامية الداخلية اللبنانية سعت إلى وقف الحرب على خلفية المصائب التي لحقت بالحزب، فإن إيران سارعت إلى تأكيد حضورها إلى بيروت أولاً للحؤول دون "استضعاف" الحزب من خلال أي "تنازل" من أي نوع. الإبقاء على أوراق إيران حية بما يعني من خلال تركيز "مقاومة " الحزب على الجنوب حيث الهم الإسرائيلي تأمين الحدود الشمالية بهدف ضمان العودة الآمنة لأكثر من 60 ألف إسرائيلي نزحوا من المنطقة الحدودية جراء الضربات التي نفّذها "حزب الله" عبر الحدود خلال العام الأخير. فالصورة في الجنوب وما يجري في القرى الحدودية غامض إلى حد كبير حول مدى التوغل أو التراجع الإسرائيلي في ظل تناقض المعلومات بين ما توزعه إسرائيل وما يوزعه الحزب. ولكن هذه هي الورقة التي يستميت الحزب لعدم خسارتها، وهو سيواصل رغم الضربات الكبيرة التي تعرّض لها، استهداف شمال إسرائيل لأن ذلك يعني أن الحل غير ممكن إلا عبر التفاهم الدبلوماسي الذي تشكل إيران ممراً له.

خطورة الوضع أن عراقجي أتى لنقض اتجاهات أهل السلطة في لبنان في اتجاه وقف النار بمعزل عن غزة، فيما هؤلاء ابتلعوا ألسنتهم ولم تصدر أي كلمة منهم . ومسارعة الدول الخليجية والعربية لبدء تقديم المساعدات لافت جداً قياساً إلى واقع أن الضربات الإسرائيلية طاولت " حزب الله" وبيئته في الدرجة الأولى. لا إمكان لتسوية في لبنان من دون الدول العربية والخليجية حتى لو احتفظت إيران بورقة الحزب مهما غدا عليه وضعه. وهذا ما قد يؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية ربما في الأسابيع المقبلة، والبعض يراهن قبل انتخاب الرئيس الأميركي الجديد الذي قد يعيد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، ما لم تفرض الحرب متغيرات أخرى.

لا تشبه الحرب الراهنة لا حرب 2006 ولا اغتيال الأمين العام السابق للحزب عباس الموسوي وما تلى كليهما من "انتصار" أو عدم احتمال تغير "قواعد اللعبة" باغتيال السيد حسن نصر الله، على رغم المقارنات التي تحصل من أجل تأكيد أن اغتيال قيادات الحزب لن يغير شيئاً أو أن الحرب الأخيرة لن تفعل ذلك أيضاً. هناك تحولان أساسيان: الأول أن نصر الله كان مختصراً للحزب بشخصه والكاريزما الخاصة به وقوته، ولم تشعر طائفته أو تلمس بعد تأثير غيابه ولم يتح لها ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللبنانيين، وقد طبع بإدارته لحزبه السياسة اللبنانية على الأقل خلال العقدين الأخيرين. والقول إنه يمكن استبدال القيادات فيما البدائل جاهزة هو تقليل غير منصف من قيمة نصر الله وحجمه وأثره السحري في جماعته على الأقل وحتى سواها. وأي خلف له أياً يكن يصعب أن يشغل الحجم المعنوي نفسه. يضاف إلى ذلك حجم الانكشاف الاستخباراتي للحزب وحتى لإيران أمام إسرائيل على نحو يبدو الحزب في الداخل اللبناني في أي تحرك يمكن أن يقوم به تحت رحمة إسرائيل التي تحصي عليه أنفاسه. والثاني هو قدرة إيران على إعادة بناء الحزب كما في السابق. فمن جهة فإن لبنان قد يشهد تحولات مختلفة بعد الحرب الأخيرة في ظل الشروط القاسية لإعادة إعماره مجدداً. ومن جهة أخرى فإن المسؤولية كبيرة جداً على الدول الغربية والعربية من أجل منع إيران من إعادة إنتاج الوضع نفسه في لبنان من خلال الضغط على طهران بكل الوسائل الممكنة. فما حصل، على مأساويته، يجب أن يشكل فرصة لحل أكثر ديمومة في لبنان بدلاً من البناء سابقاً على حلول ترقيعية فحسب استند إليها المجتمع الغربي من أجل إقفال أزمات معقدة مع تعميق الأمر الواقع وترسيخه.