إيران وأذرعها.. جذور "تصدير الثورة" وحسابات الواقع الجديد

حين يتردد اسم إيران في المنطقة، على صعيد ما يجري بـ4 دول عربية، دائما ما يرتسم في الأذهان شكل علاقة "استثنائية" تقوم على معادلة خاصة بالتعاطي بين دولة من جهة، ووكيل أو ذراع وميليشيا من جهة أخرى، بعيدا عن الإطار العام الذي تتعامل بموجبه الدول لتسيير العلاقات ضمن آلية دولة مقابل دولة.

ورغم أن هذه الحالة ليست جديدة، أو "استثنائية"، بالعودة إلى جذور "استراتيجية تصدير الثورة" التي قام عليها النظام الإيراني في سبعينيات القرن الماضي، وما شهدته السنوات الماضية، تطلق الظروف التي تعيشها طهران الآن تساؤلات جوهرية عدة.

وترتبط تلك التساؤلات بالأسباب التي دفعت إيران سابقا، ولا تزال قائمة حتى الآن، للاعتماد على الميليشيات بعيدا عن الإطار العام والخاص للدولة الواحدة، وتذهب باتجاه آخر يتعلق بالاحتمالات والسيناريوهات التي ستكون عليها العلاقة بين "الرأس والوكيل" أمام ما يتعرض له "الأخطبوط" من ضغوط، وهو الوصف الذي تطلقه إسرائيل دائما على إيران.

وأعلنت إسرائيل، قبل يومين، تنفيذ ضربة جوية على إيران، كرد انتقامي على ما أقدمت عليه الأخيرة عندما أطلقت رشقة من الصواريخ البالستية في هجوم هو الثاني من نوعه في تاريخها.

وبينما خالفت الضربة التوقعات على صعيد الحدة المعلنة التي كانت عليها، ذكرت تحليلات نشرتها وسائل إعلام عبرية، الاثنين، أنه لا يمكن قراءتها إلا في نطاق "البروفة" التي قد تؤسس لحملات مشابهة وتصعيدية أكبر، في حال انقطعت خيوط التفاوض.

ويقول الباحث في "معهد الشرق الأوسط"، سمير التقي، إن المواقف الإيرانية التي تلت هجوم إسرائيل تشي بأن "إيران انتقلت إلى موقف دفاعي على أراضيها، وهو ما رأيناه في خطاب علي خامنئي عندما تحدث عن ضرورة الدفاع عن بلاده دون أن يذكر بقية الساحات".

كما تدل المواقف، بحسب حديث التقي لموقع "الحرة"، على أن إيران "لم تعد قادرة على خوض معارك إقليمية بالاستفادة من أذرعها، أو حتى للدفاع عنها"، خاصة بعد الضربات المتتالية، التي تلقتها وتلقاها وكلائها، وعلى رأسهم حزب الله في لبنان.

لماذا تفضل التعامل مع ميليشيات؟

في سوريا، كمثال، تَتبع لإيران مئات الميليشيات على الأرض، منها ما هو محلي وآخر أجنبي، وزجت بهم ورسمت حدودا للتعاطي معهم على نحو أكبر من المركز في دمشق منذ عام 2012.

ولا يختلف الأمر كثيرا عند النظر إلى العراق، في المرحلة التي دخل بها هذا البلد بعد 2003، وصولا إلى اليمن حيث بات اسم الحوثيين يرتبط بطهران هناك بشكل لا إرادي، ولاعتبارات تتعلق بسنوات من الاستخدام على عدة جبهات.

ذات الصورة المتعلقة بإيران، كانت الأخيرة استنسختها منذ عقود في لبنان عن طريق "حزب الله"، وهي الجماعة التي "سمنتها" بالتدريج من حساب الدولة اللبنانية والمواطنين هناك، لكنها دخلت الآن في مأزق كبير لا يعرف له مخرج حتى الآن.

ويوضح آراش عزيزي، المحاضر في التاريخ والعلوم السياسية في جامعة كليمسون، أن أسباب تفضيل إيران التعامل مع ميليشيات بعيدا عن هياكل الدول ترتبط بأنها "تواصل مشروعا ثوريا أيديولوجيا لا تشاركه أي قيادة دولة أخرى في الشرق الأوسط"، ولذلك "تستخدم هذه الميليشيات لدفع هذا المشروع".

كما أن إيران أدخلت الميليشيات في مفهومها للعقيدة الأمنية، وتستغل الانقسامات الاجتماعية في هذه المجتمعات لتعزيز نفوذها، وتستخدم حالة عدم الاستقرار الناتجة كوسيلة لتعزيز قوتها، وفق حديث عزيزي لموقع "الحرة"، وهو مؤلف كتاب "القائد الظل: سليماني والولايات المتحدة وطموحات إيران العالمية".

تاريخيا، استغلت إيران حالات الأزمات وانهيار الدول الداخلي لتطوير حلفاء ووكلاء يعتمدون على دعمها، بحسب غريغوري برو، محلل الشؤون الإيرانية في مجموعة أوراسيا للاستشارات الجيوسياسية.

واتبعت هذه الاستراتيجية في لبنان في الثمانينيات، وفي العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وفي اليمن خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ويعتقد برو في حديثه لموقع "الحرة" أن السبب الرئيسي لذلك أن معظم الدول في المنطقة إما معادية للجمهورية الإسلامية، أو تعتبرها تهديدا أو منافسا.

وباستثناء نظام الأسد في سوريا، "ليس لدى إيران حلفاء دوليين حقيقيين في المنطقة، مما يفسر تفضيلها تطوير حلفاء غير حكوميين"، على حد إشارة محلل الشؤون الإيرانية في "أوراسيا".

ولطالما ذهبت تحليلات لمراقبين باتجاه أن سياسة تشكيل الأذرع والوكلاء والتعاطي معها كدول داخل دولة تقف ورائها أهداف خالصة تتعلق في الأساس بنية طهران تشكيل حاجز دفاع وصد أمامي.

لكن، وبناء على المعطيات التي شهدتها الأشهر والأسابيع الماضية، تبين أن هذه السياسة نجحت في جزء وكان لها تكاليف كبيرة في أجزاء أخرى.

وعلى نحو متسارع انهار قادة الصف الأول والثاني والثالث لـ"حزب الله"، وبموازاة ذلك وصلت حدود الضربات الإسرائيلية لأول مرة إلى الحديدة باليمن.

وفيما يتعلق بسوريا والعراق، لم يكن لـ"الإسناد" المقدم من هناك أي دور فعلي على صعيد تخفيف الضغط عن حاجز الدفاع الأول (حزب الله) أو إبعاد خطر الضربات القادمة من بعيد.

وعلى العكس مرت الطائرات الإسرائيلية في ضربتها الأخيرة من أجواء سوريا والعراق، وأكدت بغداد ذلك من خلال الشكوى التي قدمتها للأمم المتحدة، الاثنين.

"اعتقاد و3 أهداف"

وفقا للباحث في "معهد الشرق الأوسط"، سمير التقي، اختارت إيران أن يكون لها ميليشيات في دول المنطقة، لأنها تملك اعتقاد "بأنها تريد أن تدافع عن طهران من خارج الحدود".

وعلى أساس ذلك فإن "عملية توسيع النفوذ الإقليمي يعتبر أمرا ضروريا بالنسبة لها ومن وجهة نظر الدفاع من خارج الحدود".

ويشير التقي إلى عامل آخر يتمثل بنظرة إيران للدول العربية على أنها "ليست مكتملة البنية، وبالتالي من الممكن اختراقها وتكوين ميليشيات تكون بديلة للدولة".

ويضيف أنها كانت تنظر لتلك الدول أيضا "كمنطقة فراغ استراتيجي يمكن من خلالها أن تفاوض الغرب لأن يعترف بدورها الإقليمي بما في ذلك لبنان، وسوريا، واليمن، والعراق. أي الاعتراف بمنطقة نفوذ إيرانية مغلقة ويجب التعامل معها على هذا الأساس".

ويوضح أستاذ العلاقات الدولية المقيم في واشنطن، هيثم الهيتي، أن التعامل مع الميلشيات على نحو خاص ووجودها في دول مثل العراق ولبنان واليمن وسوريا يضمن لإيران أن "تتحكم مثلا بالوجود الأميركي أو تؤثر عليه سلبا".

ولو كان الأمر غير ذلك لما تمكنت طهران من التصرف كما هي الحالة اليوم.

الأمر لا يقتصر على ما سبق فحسب، إذ تشّكل استراتيجية الميليشيات لإيران "محطة استفادة اقتصادية"، وهو الأمر الذي نراه ينعكس من الساحة العراقية، بحسب حديث الهيتي لموقع "الحرة".

ويضيف: "لو وجدت الدولة لرأينا ضوابط تجارية، واقتصادية، وأمنية، وسياسية. وكل ذلك سيمنع إيران من أن تحصل على عشرة بالمئة مما تحصل عليه الآن".

"الفوبيا الإيرانية" على حد تعبير أستاذ العلاقات الدولية تعتبر عاملا أساسيا أيضا في سياسة التعامل مع ميليشيا بعيدا عن هيكل الدولة الواحدة.

ويشرح الهيتي حديثه بالقول إن "طهران لديها عقدة من تحول العراق مثلا لدولة تكون لها قدرة على المنافسة أو على الصراع أو على أي احتمالات ممكنة".

ما احتمال "الترويض"؟

ومنذ عام 2012 نجحت إيران عبر انخراطها عسكريا بسوريا، وفق سياسة الزج بالميليشيات في حرف دفة الصراع لصالح نظام الأسد. ومع ذلك يبدو أن الأخير يخشى الآن في ظل التصعيد الإسرائيلي من التداعيات التي قد يفرضها الشكل العسكري الذي ساعد في تثبيته على كرسي الحكم.

وفي لبنان، ورغم أن حزب الله كسب سياسيا وعسكريا لسنوات، وبدفع إيراني، باتت الفواتير التي يدفعها الآن أكبر على صعيد هيكله العسكري وتعدت خلال الأسابيع الماضية إلى حد الواقع اللبناني ككل.

وحالة اليمن لا تختلف كثيرا أيضا، ولا يزال مشهده حتى الآن محكوما بصعود الحوثيين عسكريا دون الالتفات إلى أي اعتبارات أخرى إنسانية وسياسية وأخرى متعلقة بالسيادة التي كسرتها إسرائيل.

أما العراق، فمنذ سنوات تحوّل إلى بلد تتصدره حكومة وجيش لكن تنغل فيه ميليشيات من الداخل، ويترافق ذلك مع غياب أي بادرة للخروج من نفق كبير يشوبه الفساد وغياب سلطة القانون.

ويقول محلل الشؤون الإيرانية، غريغوري برو إن الميليشيات المرتبطة بإيران تعمل كـ "دفاع متقدم" لها وكدفاع في العمق من الهجمات، بالإضافة إلى كونها مصدرا للقوة البشرية والموارد لعرض قوتها في المنطقة، مما يعوض عن نقص القوة العسكرية التقليدية.

ورغم أن هذه الاستراتيجية قد تعرضت للضعف بسبب حروب إسرائيل ضد حماس وحزب الله، فمن غير المحتمل أن تتخلى إيران عنها طالما استمرت في خدمة مصالحها في العراق واليمن، بحسب الباحث.

ومع ذلك، في كلا البلدين، استولت الميليشيات المدعومة من طهران بشكل فعال على الدولة، وهي في وضع يمكنها من ترسيخ سلطتها بدلا من تقويض الدولة بشكل أكبر.

ويضيف برو أنه "من المحتمل أيضا أن تكون (تطبيع) الميليشيات لتحويلها إلى حلفاء حقيقيين هي استراتيجية إيران".

ويرى الباحث عزيزي احتمالا لقبول طهران بفكرة "الترويض" وقد تقبل بتراجع، سواء كان تكتيكيا أو طويل الأمد واستراتيجيا.

وفيما يتعلق بالميليشيات يوضح أنها "تحصل على ملايين الدولارات من إيران بالإضافة إلى الدعم السياسي والدبلوماسي"، لكنه يعتقد أن مستقبل كل ميليشيا وعلاقتها بطهران يختلف.

وقد تتجه إيران ببعض الميليشيات نحو "التوطين" والتركيز على أجندة محلية أكثر.

وفي المقابل قد تدمج أخرى مع غيرها، وقد تظل بعضها كجهات قوية غير حكومية، وفقا لعزيزي.

هل تحولت الأذرع إلى "عبء"؟

منذ سبتمبر الماضي يتعرض حزب الله، الوكيل الأبرز لإيران في لبنان والمنطقة، لضغوط عسكرية غير مسبوقة، وصلت إلى حد قتل إسرائيل لكبار قادته في الصف الأول والثاني والثالث وأمينه العام حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين.

ولا يعرف حتى الآن المسار الذي سيكون عليه الحزب في المرحلة المقبلة، وما إذا كانت إيران قادرة على مساعدته كي لا يصل إلى مرحلة الانهيار الكامل.

كما لا يعرف ما إذا كانت قادرة أيضا على مواصلة عمليات ضخ الأسلحة والذخائر، وهي التي تسعى إسرائيل لقطعها.

ويرى الباحث السوري التقي أن ما نراه هو أن "إيران فشلت في إثبات أنها قادرة على الدفاع عن أذرعها".

ويتضح ما سبق في طريقة مجابهتها للتحديات، سواء على حزب الله أو حتى على الحوثيين في اليمن.

وفي المقابل يوضح التقي أن "أذرعها باتت ليست بوارد الدفاع الاستراتيجي عنها أو حتى بدء عمليات عسكرية أوسع بناء على فكرة أن الرأس سيقدم لنا الدعم في ذلك".

ويتركز جهد إسرائيل ودول غربية وإقليمية الآن على إنهاء قدرة إيران على إيصال الأسلحة والدعم المالي لأذرعها في المنطقة، بحسب الباحث في "معهد الشرق الأوسط".

ويضيف: "في السابق كان لإيران أجندة تتعلق بالحفاظ على الأذرع من أجل المساومة (كما حصل في لبنان عام 2008).. لكن هذه الأجندة انهارت الآن".

ومن جهته يعتقد أستاذ العلاقات الدولية، الهيتي أن "مصير الميليشيات والأذرع هو من مصير إيران ومستقبلها السياسي ونفوذها في المنطقة".

لكنه يفرّق بين عدة ساحات، وبينما يرى الهيتي أن "طهران قد تقبل بتنازل نسبي لذراعها في لبنان وكذلك الأمر في سوريا"، ستعمل على تركيز نفوذها في اليمن والعراق على الخصوص لاعتبارات سياسية واقتصادية.