اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل اليوم... ما بعده ليس كما قبله

جاء في "الراي" الكويتية: ...عهدُ الرئيس ميشال عون انتهى ولم يَبْقَ إلا أن يحزمَ حقائبَه، وحقبةً من الأكثر اضطراباً عَرَفَها لبنان في تاريخه الحديث، على متن زنّارٍ جماهيري سـ «يحرس» خروجه من قصر بعبدا يوم الأحد.

واتفاقُ الترسيم البحري مع إسرائيل أُنْجز ولم يبْقَ إلا «الإبرام» اليوم في الناقورة تحت علم الأمم المتحدة وبرعاية واشنطن، لتصبح عيونُ الوطنِ «المفقودِ» تحت ركام أزمةٍ ماليةٍ عاتية، على قعر البحر حيث الكنز الدفين.
أما الحكومة العتيدة فتستمر عملية «البحث والإنقاذ» عنها ولها حتى «النَفَس الأخير» رغم بلوغ «الحرب الباردة» على تخومها أعلى مستويات السخونة السياسية على وقع التهديدات باستخدام «الأسلحة الاحتياط» وبالويل والثبور وعظائم الأمور.

هذه العناوين الثلاثة طبعتْ المشهدَ السياسي في بيروت الذي تَوَّزَّعت «راداراته» بين «إقفال الصفقة» البحرية التي أنجزتْها ديبلوماسيةٌ عامتْ فوق خطوط النزاع واختارت «الوصْلَ» على قاعدة «الاتفاق المفيد» لأمن إسرائيل والذي يمنح لبنان «الأمان» لاستثماره حقوله الكامنة، وبين لجوء «التيارِ الحر» إلى «قفازات» الشارع في سياق «الملاكمةِ» التي يخوضها على الحلبة المزدوجة: الاستحقاق الرئاسي الذي يواجه انسداداً كاملاً، ومسار تشكيل حكومة الشغور الذي لا أحد يجرؤ بعد على إعلان سقوطه... بالضربة القاضية.

وداعٌ «هادِر» لعون وحفلٌ صامت في الناقورة

وفيما كان «التيار الوطني الحر» يكمل التحضيرات الميدانية و«الحشدَ الشعبي» لوداعٍ (الأحد) يريد لـ «هديره» أن يحجبَ من جهةٍ دويَّ الإخفاقاتِ الشاملة التي انزلق معها لبنان إلى مصاف «الدولة الفاشلة» مع وقف الإعلان، ويشكل من جهة أخرى «عرضَ قوة» في الشارع موْصولاً بـ «المعركة الأم» أي الانتخابات الرئاسية «المعلَّقة» حتى إشعار آخَر، انهمكت قوة «اليونيفيل» العاملة في الجنوب بوضع اللمسات الأخيرة على حفل التوقيع البحري التاريخي الذي تستضيفه اليوم في الناقورة ويُراد أن يكون على طريقة «السينما الصامتة»، بلا كلام أو سلام بين طرفيْ الاتفاق، و«الكاميرا الخفية» التي قد تُحجب صورها عن الإعلام وبعِلْم الجانبين اللبناني والإسرائيلي وتوثّق لحظةً... لن يكون بعدها كما قبْلها.

وسيحضر توقيع «خطة هوكشتاين» للهدنة الدائمة البحرية، الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، والقائد العام لـ «اليونيفل» الجنرال الإسباني أرولدو لازارو، وممثلان لكل من لبنان وإسرائيل سيوقّعان في شكل منفصل وكلٌّ في غرفة على مذكرة الترسيم الأميركية.

وقد وصل الوسيط الأميركي مساء أمس، إلى بيروت، على أن يزور صباح اليوم، الرئيس عون ليسلّمه نص مذكرة الترسيم ويتوجّه بعدها للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، لينتقل قرابة الثالثة من بعد الظهر إلى الناقورة لمَراسم التوقيع التي انتظر لبنان تَبلُّغ طبيعة التمثيل الإسرائيلي إليها ليختار وفده، العسكري أو الإداري أو المشترك، ليصبح بعدها الاتفاق نافذاً.

نفاذٌ مسبَق لاتفاق الترسيم

وفي حين بدأ «سريان» الترسيم مباشرة في المقلب الإسرائيلي بإعلان شركة انرجين البدء بإنتاج الغاز من حقل كاريش، انشغل اللبنانيون بالتقارير التي تحدثت عن أن حكومة تصريف الأعمال في بلدهم وافقت «على التنازل عن 40 في المئة من حصة TotalEnergies (أو توتال لبنان) في تحالف لاستكشاف الرقعة 9 في المياه البحرية اللبنانية إلى شركة داجا 215 (المملوكة من توتال فرنسا)».

ونقلت قناة «الجديد» عن مصادر وزارة الطاقة اللبنانية «أن حصة نوفاتك والتي تبلغ 20 في المئة من حصة كونسورتيوم استكشاف الرقعة 9 آلت إلى لبنان (بعد انسحاب الشركة الروسية) الذي حوّلها بشكل موقت إلى داجا 216 (شركة مملوكة أيضاً من توتال فرنسا)، على أن تتحول هذه الحصة لاحقاً إلى مشغّل عالمي ينضم إلى التحالف خلال مهلة 3 أشهر».

وأضافت: «الوزارة تسلّمت رسالة نيات من وزارة الطاقة القطرية تعرب عن نية Qatar energie التابعة للدولة القطرية بالاستحواذ على هذه الحصة، كما أعربت عن رغبتها بأن تزيد حصتها بأخذ 5 في المئة من حصة توتال و5 في المئة من حصة eni (الإيطالية) في الكونسورتيوم فتصبح الحصص على الشكل التالي: 35 في المئة لتوتال، 35 في المئة eni و 30 في المئة قطر».

وجاء هذا القرار في سياق بدء تنفيذ موجبات اتفاق الترسيم التي تمنع أن تتولى شركة لبنانية أو إسرائيلية العمل في الرقعة 9 أي في حقل قانا الذي يقع افتراضياً جزء منه جنوب الخط 23 الذي اعتُمد للترسيم، وقد وافقتْ اسرائيل على منْح بيروت حق الانتفاع منه لقاء تعويضات مالية من أرباح توتال الفرنسية وبموجب اتفاق مع الشركة لا يرتّب مفاعيل على عملها في المقلب اللبناني.
تسليمٌ بـ «ولاية الشغور»... والحكومة في عنق الزجاجة

وفي موازاة هذا العنوان ذي الأبعاد الاستراتيجية، تكرّس التسليمُ بانتقال البلاد رسمياً في 1 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى «جمهورية الفراغ» بعدم تحديد بري موعداً بديلاً لجلسة الانتخاب الرئاسية الخامسة التي كانت مقرَّرة اليوم وأرجئت بداعي زيارة هوكشتاين والتوقيع البحري، من دون أن يُعرف إذا كان رئيس البرلمان سيدشّن مرحلة الشغور بفصلٍ جديد من «مسرحية الـ لا انتخاب» أو سيجعل الحوار الذي أعلن النية للدعوة إليه حول الاستحقاق الرئاسي أولويةً.

وفي حين بدا واضحاً أن الشغور بات وراء اللبنانيين الذين سلّموا به، بقي الغموض الوحيد يلفّ هل ستسبقه معجزة تأليف حكومة كاملة المواصفات ترث صلاحيات الرئاسة الأولى أم تُنسف الجهود المستمرة لتفادي منْح حكومة تصريف الأعمال الحالية ورئيسها قبّعة «رئاسية» وهو ما وصفه رئيس «التيار الحر» جبران باسيل بأنه سيكون «مجزرة دستورية» و«عملية سطو على الدستور والموقع الأول في الدولة ولن نقبل بها ولن نسمح بها وسنواجهها بكل ما أوتينا من قوة»، محذراً أن «مَن يريد فرض حكومة فاقدة للصلاحية يأخذ البلد إلى الفتنة».

ميقاتي الهادئ لا يهادن بشروطه

واختار ميقاتي الردّ على باسيل بهدوء معتبراً «أن الكلام الانفعالي صدر عنه في لحظة سياسية دقيقة تحتاج إلى التعاون، لا إلى إطلاق الاتهامات والمواقف جزافاً، واستخدام عبارات التحدي والاستفزاز»، ومعلناً أن «الأنسب في هذا الظرف الصعب هو التعاضد لدرء الأخطار الداهمة عن الوطن، والتعاون بين أعضاء مجلس النواب ومنهم السيد باسيل لانتخاب رئيس جديد للبلاد ووضع الأمور مجدداً في إطارها الديموقراطي الطبيعي، ليس إلا».

ورغم أن موقف ميقاتي اعتُبر تأكيداً على أن الأولويةَ باتت لانتخاب الرئيس وأن «القطار فات» على تأليفِ حكومةٍ بشروط فريق عون تُبْقيه عملياً المتحكّم بها وتالياً بمفتاحٍ رئيسي في مرحلة الشغور يقوّي موقعه في السباق الرئاسي، فإنّ معلومات رُوِّجت عن أن الاتصالات لم تتوقف لاستيلاد حكومةٍ وعن دخول السفيرة الفرنسية آن غريو على خط الحضّ على تلافي الفوضى الدستورية وتشكيل «منطقة آمنة» لإدارة الفراغ في الرئاسة الأولى، مع اعتبار الساعات الـ 48 المقبلة فاصلة لتحديد «اتجاهات الريح» حكومياً، فإما دخان أبيض في آخر دقيقة وإما احتراق المحاولة الأخيرة لتجنيب البلاد الاضطراب الشامل.

ولم يكن ممكناً الجزمُ بما إذا كانت هذه المناخات في سياق ترْك الباب موارَباً أمام الفرصة الأخيرة وانتزاع حكومة من فم التعقيدات المتشابكة، أم في إطار تقاذُف الاتهامات عن إفشال عملية التشكيل وترْك كل فريق للآخر أن يقع على عاتقه تسديد «الهدف القاتل» في مرمى التأليف وما سيستتبعه من وضع البلاد على «كف عفريت».

فريق عون «الإصبع على الزناد» الدستوري

وكان لافتاً تأكيد نواب في «التيار الحر»، الذي يعتبر أن مغادرة عون القصر هي بمثابة «فك أسر» له وتحريرٍ له من أعباء الرئاسة، أن كل الخيارات مفتوحة لمنْع حكومة ميقاتي المستقيلة من الحُكْم نيابةً عن رئيس الجمهورية، من الخطوات الدستورية إلى السياسية والشعبية، وسط تظهير توجهٍ لدعوة الوزراء المحسوبين على عون للاعتكاف عن تصريف الأعمال وتالياً الحؤول دون توفير النصاب الميثاقي ما لم يكن العدَدي لاجتماع مجلس الوزراء كشرطٍ لممارسة صلاحيات الرئاسة الأولى.