اختلاسات السفارة اللبنانية بأوكرانيا: عجز قضائي بكشف الحقيقة

لما كان العمل الدبلوماسي، وما يحمله من رمزيّة رفيعة ومهمة لكل دولة، شأنًا حساسًا يتطلب مراقبة فعلية ومستمرة لكل التفاصيل المتعلقة بالشأنين المالي والإداري لكل بعثة أو سفارة، فإن تناسي الدولة اللبنانية أو إهمالها لهذا الشأن ارتد تشويه سمعة وفضائح عدة. والذي حدث بقضية الفساد والاختلاس العلنيّ لأموال السفارة اللبنانيّة في أوكرانيا  مثال مخجل لما وصلت إليه بعض أحوال دولتنا، بما يشكل إهانة مباشرة للبلاد ومؤسساتها.

حتى الآن الأموال المتبخرة والتّي تقدر ما بين 319 و 335 ألف دولار أميركي، لا يزال مصيرها مجهولاً، وسط مهزلة تقاذف المسؤوليات والتهم الرسمية المتبادلة، في حين يعجز القضاء حتى الآن في الكشف عن هوية المختلس ومعرفة مصير أموال الجاليّة اللبنانيّة في أوكرانيا، والتّي كانت تغذي كل من صندوق السفارة وخزينة الدولة.

تقاذف التهم
بالعودة إلى منتصف حزيران عام 2022، فإن وزارة الخارجية فتحت تحقيقًا موسعًا في قضية الاختلاس بعدما تقدّم السفير اللبناني في أوكرانيا علي ضاهر، بكتاب رسمي إلى وزارة الخارجية اللبنانيّة، يفيد بكشفه اختلاس مبالغ من صندوق السفارة، تتراوح بين 319 و335 ألف دولار أميركي (يتغذى الصندوق من أموال تجديد جوازات السفر وعقود الزواج والمعاملات). وقد حُول الملف بعدها إلى القضاء اللبناني، لمتابعة تفاصيل هذه القضية والكشف عن المتورطين في عملية الاختلاس.اللافت في هذا السياق هو أن السفير نفسه، كان من ضمن المجموعة التي حقق معها القضاء اللبناني، مما جعل القضية أكثر تعقيدًا وجدلًا.

وعليه أعطت النيابة العامة التمييزية، إشارة لفتح تحقيق موسع، واستدعت السفير والموظف المالي علي حيدر، للمثول أمام القضاء اللبناني، إلا أن الأخير لم يحضر أبدًا، ولم يحقق معه ولا يزال متواريًا عن الأنظار.

وحسب ما رجحت بعض المصادر المتابعة، فإن علي حيدر يحظى بدعم سياسي "ثقيل"! فيما انتهى استجواب السفير ومجموعة من الأشخاص من وزارة الخارجية اللبنانية، بناءً على جلسة مبنيّة على تقاذف المسؤوليات، من دون معطيات ملموسة وشفافة.

هذا واستدعى القضاء اللبناني مدققين ماليين من وزارة الخارجية لمعرفة حركة الأموال خلال تلك الأعوام، وكانوا قد أفادوا بأنهم أبلغوا السفير بعدم تلقيهم أي تقارير رسمية منذ عام 2019. ولدى تدقيقهم في الحسابات وفي حركة  الأموال، تبين أن هناك مبلغاً ضخماً تمّ سحبه من صندوق السفارة وحوّل إلى العملة الأوكرانية من دون مبرر. وقد اشتبه بأن هناك تزويرًا في عقد إيجار منزل السفير. فالمبلغ المصرح عنه كان أعلى من المبلغ الفعلي والحقيقي. ورجح رؤساء أقسام النفقات في الوزارة، أن السفير كان على علم بالسحوبات المالية. ليتبين لاحقًا أن بعض السحوبات قد تكون وُقعت من دون التدقيق بها وبمضمونها.

ترك الجميع!
بعد ذلك، جرت مواجهة بين السفير علي ضاهر ورئيس قسم الدائرة المالية بالوزارة، وبينه وبين رئيسة قسم النفقات في الوزارة، ليعود سيناريو رميّ الاتهامات وتقاذف التهم، من دون الحصول على أي حقائق، أو معلومات واضحة ترتبط بمصير الأموال والمتسبب الأساسي "باختلاسها"، لتنتهي الجلسات على معارك بين الأطراف جميعها، فما كان من النيابة العامة التمييزية سوى ترك جميع المعنيين بسند إقامة.

القضية بما يحيط بها من ملابسات، لا شكّ أنها تمثل عينة مصغرة عن الفساد المنتشر في كافة مفاصل الدولة والذي امتد مؤخرًا للجانب الدبلوماسي، ما يضع موقف لبنان في موضع الشبهة حتّى خارج الأراضي اللبنانية، فبعد ملفات نهب المال العام التّي وصلت إلى المحاكم الأوروبية، التي بدورها تحركت بسرعة لافتة لمتابعتها، يبدو أن صورة لبنان لم تلطخ بأكملها آنذاك، ليأتي اختلاس أموال السفارات ويضع اللمسة الأخيرة على لوحة الفساد، فيما يبقى السؤال الأساسي: "من اختلس أموال السفارة"؟ لا أحد يعلم!