المصدر: المدن
الكاتب: روزيت فاضل
الجمعة 11 تموز 2025 16:23:53
"ديوانية حب" ليست فناً طربياً أصيلاً فحسب، بل هي فعل. هذا الفعل، الذي جمعنا أمس في سهرة إستنثائية " لا تشبه إلا نفسها"، كما وصفتها المطربة جاهدة وهبه لـ"المدن" في افتتاح مهرجان بيت الدين الدولي، والذي جمع ثلاث حناجر مخملية: وهبه نفسها، والمطربتان ريهام عبد الحكيم من مصر، ولُبانة القنطار من سوريا. أصوات نسائية سادت المكان، وهيمنت، وخلبت ألباب الحضور.
أصوات مطبوعة برصيد عذب، نقي وجشي أسر الجمهور بإيقاعه المبنى على وحدة النغمة في الشعر والمكمل لبنيته اللحنية. فقد أعادنا هذا المجلس الطربي إلى مجد الطرب العريق الأصيل مرسخاً صورة المرأة ومكانتها في فضاء الثقافة، والحب والجمال، كل الجمال، في محاولة ناجحة تصدت -ولو لوقت قصير- للقبح وللعنف المجنون المحيط بنا.
ذكّرت هذه السهرة الإستثنائية، وهي بتوقيع وهبه نفسها، بهوية حضارتنا الموسيقية الغنية بخوابي الطرب المتدفقة منها أعمال أزلية لأم كلثوم مثل "ألف ليلة وليلة"، و"الأطلال"، وأخرى لأسمهان مثل "يا طيور" و"ليالي الأنس في فيينا"، وصباح "زي العسل"، وفيروز "إرجعي يا ألف ليلة"، ووردة الجزائرية "في يوم وليلة"، وداليدا "حلوة يا بلدي"، وعبد الحليم حافظ "قارئة الفنجان"، ونجاة الصغيرة "أما براوه"، وكل ما يعبق من "ميرون" تلك الخوابي لكل من عبد الوهاب ووديع الصافي.
جاهدة وهبه، التي تتسم بصوت فريد من نوعه، صاغت ريبرتواراً "لا يشبه الا نفسه" من خلال "تطريز" برنامج غنائي متابين بين الطرب التقليدي والموشحات والمقامات العربية ووقفات مع الموسيقى الكلاسيكية والأوبرالية، ما حول المطربات الثلاث الى "أميرات" طرب في مجلس خاص بهن يحيين تراثنا الأصيل بألحان مبهجة قادرة على إطرابنا، عزفتها فرقة موسيقية بقيادة المايسترو أحمد طه، الغني عن التعريف، وعدد من العازفين، منهم علي مذبوح وأسامة عبد الرسول ونزار عمران.
"أميرات الطرب" جلسن معاً في مجلسهن يحاكين جمهور قصر بيت الدين، الذي خصته جاهده وهبه بأغنية وصفت فيها المكان بـ"مقام الروح"، متوقفة عند هيبة القصر وحجاره الشاهدة على فصول من تاريخنا قبل ولادة لبنان وخلاله، وما رصدته القناطر المحيطة بالساحة، التي عانقتها أضواء كاشفة "ضاحكة" أحياناً ومتحركة احياناً اخرى، كأنها تنذر بماضٍ حاضر هنا يجالسنا "مبتهجاً" بأميرات من سلالة الطرب، يتألقن بلباس من طراز تقليدي، جاهده وهبه بعباءة بيضاء كثلج صنين مطرزة بنجوم صافية مثل صوتها، لبانة القنطار بفستان طويل أزرق كبحر بيروت، وفستان طويل آخر لريهام عبد الحكيم يشبه لون تراب الأرض بعد مطر تشرين.
عبد الحكيم، التي روت عطشنا الى الأغنية المصرية العريقة، قدمت كلثوميات بأداء صوت محترف جداً مسكون بالفكر والأمل، لا سيما بأدائها "الأطلال"، وسط تصفيق حاد.
أما قنطار المتحدرة من رحم عائلة أسمهان، فقد تحول بأدائها أغاني أسمهان مثل "ياطيور" و"ليالي الأنس في فيينا" الى عطر آخاذ إجتاح أرجاء مكان الحفل.
البرنامج حمل غناء منفرداً وثنائياً وثلاثياً لأميرات الطرب، اللواتي كن على تناغم كامل في الريبرتوار المفعم بجبلة من الفرح، عند جمهور غنى للحياة، للأمل الآتي إلينا.
يخال إليك في الحفل أن أميرات الطرب آتين الينا من الإمارة الشهابية ليسكبن روائع في الصوت والموسيقى والأنوثة رغم الوجع الشديد المحيط بنا.
في جرن الموسيقى والطرب، كان الحفل هو رديف الفكر الإنساني بما تخلله من تقديم للعمل نفسه ومكانته وما رافقه من حوار "دينامي" من جاهده وهبه والمطربتين لبنة قنطار وريهام عبد الحكيم، اللواتي استنهضن بنقاوة إلهية عرساً طربياً ساهم معنا الى الوصول الى الحلم، وما أجمله.
عبرت الأمسية المتربصة بالزمن العريق أن الثقافة ولاسيما الموسيقى والطرب هما غرفة الإنعاش من لغة الموت المحيطة بنا، إضافة الى أنه سلط الضوء على أهمية استنهاض دور المرأة البعيدة عن التصنع في شكلها وفكرها في يومياتنا وهو بات حاجة ماسة لكي يبقى للإنسانية وللوطن وللآخر معنى.
ختاماً، تحول المجلس الطربي في نهاية السهرة الطربية الى لقاء مع أركان الحكومة على المسرح نفسه غنى فيه رفاق الدرب والحياة وهم رئيس الحكومة نواف سلام وزوجته سحر بعاصيري ووزير الثقافة غسان سلامة ونائب رئيس الحكومة طارق متري ووزيرة السياحة لورا لحود ووزيرة الشؤون الإجتماعية حنين السيدة ورئيسة مهرجانات بيت الدين نورا جنبلاط الى لبنان الآتي، الذي ما زال في عمق جلجلته القاتلة.
هل ننجو من الغرق؟ هذا السؤال فرض نفسه علينا عند مغادرتنا قصر بيت الدين. لم القلق؟ السماء صافية، والنجوم حملت ألواناً بيضاء زاهية مبتهحة بالطرب وسط تصفيق حاد منا كأننا ننبذ المرارة المستوطنة بنا وبوطننا وبكل ما حولنا.