المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الثلاثاء 16 أيلول 2025 10:47:20
لم يكن تصريح النائب إبراهيم منيمنة بعد جلسة لجنة المال والموازنة، مجرّد خبرٍ إداريٍّ عابرٍ. فإقرار اللجنة اقتراح قانون معالجة حالات فرار عناصر قوى الأمن الداخليّ، بعد تعديلاتٍ ومداولاتٍ مع وزارة الداخليّة ومجلس الوزراء وممثّلي الأجهزة، يضع الملفّ أخيرًا على سكّة الهيئة العامّة؛ خطوةٌ متأخّرةٌ تقارب ظاهرةً تفاقمت "وتخطّت الألف حالةً" خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وفق ما أكّده منيمنة نفسه.
جذور الأزمة: انهيارٌ اجتماعيٌّ قبل أن يكون وظيفيًّا
ليست "الفرارات" حادثًا أمنيًّا معزولًا؛ بل نتيجةً مباشرةً لانهيارٍ معيشيٍّ ضرب بنية المؤسّسة: أجورٌ فقدت معظم قيمتها، طبابةٌ وتعليمٌ متروكان للمجهول، وشيخوخةٌ وظيفيّةٌ بعد وقف التوظيف والتسريح منذ 2019. ومنذ 2020 و2023: آلاف حالات الفرار، وامتناعٌ دوريٌّ عن الالتحاق، وحتّى حالاتُ انتحارٍ وموتٌ مفاجئٌ تحت ضغط العوز والعمل الشّاقّ، في حين أنَّ المستشفيات تمتنع عن استقبال عناصر قوى الأمن لتعذّر التسديد. إنّها "سخرةٌ مقنَّعةٌ" كما يقول غالبيّة الفارّين، لا مجرّد خدمةٍ عامّةٍ.
وإذا كان بعض المسؤولين يهوّن من حجم المشكلة، فإنّ الوقائع اليوميّة في السّرايا والمخافر وعلى أبواب المستشفيات تكذّب الطمأنة، وتشير إلى أنّ أزمة المؤسّسة باتت أزمة أمنٍ عامٍّ: عناصر منهكون، وعديدٌ يتناقص، وعتادٌ معطوبٌ، وهذا ما يرفع كلفة أيّ تلكّؤٍ تشريعيٍّ أو تمويليٍّ. هكذا تتحوّل "الفرارات" من سلوكٍ فرديٍّ إلى مؤشّرٍ بنيويٍّ على عطب الدّولة.
بين "بحكم المطرودين" و"الباب المفتوح"
يقوم الاقتراح المطروح، بصيغته الّتي قطعت عتبة لجنة المال، على اعتبار العناصر الفارّين منذ 2019 "بحكم المطرودين"، مع تحديد مهلٍ زمنيّةٍ وضوابط تمنع إساءة التّطبيق. عمليًّا، هو تسويةٌ تنهي العلاقة الوظيفيّة، وتفتح مخرجًا قانونيًّا نهائيًّا لمن غادروا فعلًا. وبالتّوازي مع ذلك، تذكّر المديريّة العامّة لقوى الأمن بأنّ "أبواب المؤسّسة مفتوحةٌ" لعودة من يرغب، على أن تدرس كلّ حالةٍ على حدةٍ، وبما تقتضيه مصلحة الخدمة. هذا التّوازي بين "التسوية النّهائيّة" و"العودة المشروطة" يعبّر عن رغبةٍ مزدوجةٍ: تخفيف عبء الملفّ الآنيّ، ومنع تشجيع الفرار مستقبلًا.
ولفهم المسار السياسيّ للاقتراح، يجدر التّذكير بأنّ الدّفع التّشريعيّ بدأ بين عامي 2024 و2025 عبر عريضةٍ نقلها منيمنة عن مجموعةٍ من العناصر الفارّين، تطالب بقانونٍ "لمرّةٍ واحدةٍ" يعتبرهم بحكم المطرودين، مقابل التّنازل عن حقوقهم الماليّة والعسكريّة؛ ثمّ ترجم الدّفع اقتراحًا ناقشته لجان الدّفاع فالمال. أي إنّ المسألة ليست اضطرابًا ظرفيًّا؛ بل هي مسار تفاوضي بين دولةٍ مأزومةٍ وأفرادٍ قرّروا الخروج من علاقة عملٍ باتت مستحيلةً.
ماذا تريد الأجهزة؟ وما الذي تتحمله الدّولة؟
سياسيًّا، يظهر أنّ مطلب الأجهزة ليس فقط "إقفال ملفّ الفرار" إداريًّا؛ فثمّة سلّة أولويّاتٍ تفرضها الوقائع على أيّة مقاربةٍ جدّيّةٍ:
تصحيحٌ مستدامٌ للأجور والتقديمات، يضمن حدًّا أدنى من العيش الكريم، ويوقف نزيف التّسرّب. من دون ذلك، كلّ قوانين المعالجة أشبه بتنظيف المياه، من دون إصلاح الأنبوب المثقوب.
استعادة "دورة الحياة" المؤسّسيّة: استئناف التوظيف والتّسريح بآليّاتٍ شفّافةٍ، وتفعيل الصّيانة والعتاد، حتّى لا تدار المراكز بـ"الحدّ الأدنى" إلى ما لا نهاية. تسويةٌ قانونيّةٌ محكمةٌ لملفّ الفارّين تمنع الاستغلال، وتعطي يقينًا قانونيًّا لأصحاب العلاقة، من دون أن تتحوّل إلى سابقةٍ تغري بالمزيد من الانسحاب من الخدمة. (وهذا ما سعت إليه تعديلات اللّجان وتحديد المهل كما أعلن).
مظلّة رعايةٍ صحّيّةٍ وتعليميّةٍ قابلةٍ للتّنفيذ بتمويلٍ واضحٍ، لأنّ الطّبابة والتّعليم هما أوّل بندين يدفعان العناصر دفعًا نحو أبوابٍ جانبيّةٍ للنّجاة.
على ضفّة السّلطة، لا يكفي تمرير عنوان "بحكم المطرودين". فالدّولة مدعوّةٌ لتقول: ما الذي تغيّر في بيئة العمل داخل المؤسّسة كيلا نعود إلى المربّع الأوّل بعد أشهرٍ؟ وهل خيار "العودة المشروطة" الذي فتحت له المديريّة أبوابها، قادرٌ فعلًا على استعادة عديدٍ وخبرةٍ فقدتهما المؤسّسة، أم أنّه مجرّد تعويمٍ موقّتٍ؟
اختبار الأربعاء… وسياسة "تسجيل النّقاط"
عمليًّا، ينتظر أن يشهد الأسبوع حراكًا ضاغطًا بالتّوازي مع متابعة الملفّ في المجلس. تتداول مجموعاتٌ تمثّل متقاعدي قوى الأمن الدّعوة إلى تحرّكٍ يوم الأربعاء، في رسالةٍ تقول إنّ أيّة تسويةٍ لا بدّ أن تقاس بأثرها الفعليّ على حياة كلّ الأجهزة الأمنيّة، لا بنصوصها وحدها. ووفق معلومات "المدن" فإنّ مجموعات المتقاعدين بغالبيّتها بدأت التّحضير لتظاهراتٍ حاشدةٍ، وتحت عناوين عدّةٍ، أوّلها تصحيح رواتب المتقاعدين وإيفاء التّعهّدات، وثانيها إيفاء تعويضات نهاية الخدمة التي تآكلت بقيمتها الفعليّة.
المعادلة بسيطةٌ ومعقّدةٌ في آنٍ معًا: من دون سياسةٍ اجتماعيّةٍ للأمن، لا سياسة أمنيّة للدّولة. اقتراح القانون الذي خرج من لجنة المال يقدّم "مخرجًا" قانونيًّا ضروريًّا، لكنّه ليس جوابًا كافيًا. الجواب الحقيقيّ يبدأ حين تعيد الدّولة تعريف واجباتها تجاه من يحملون عنها عبء الأمن اليوميّ: راتبٌ يعيش به العنصر، وطبابةٌ تنقذ حياته وأسرته، ومسارٌ مهنيٌّ يمكن التنبّؤ به. أمّا خلاف ذلك، فليس سوى تدويرٍ للأزمة بوجهٍ "قانونيٍّ" جديدٍ.