الغبار «يعبق» في معمل بيلان لتصنيع التوابيت الخشبية في عمشيت (قضاء جبيل) بسبب تقطيع الخشب ونشره. ينهمك النجّار في تثبيت ألواح الخشب ودقّ المسامير، قبل أن يحيلها إلى زميله «دهان الموبيليا». أحد أصحاب المعمل، أباً عن جد، الثلاثيني لويس بيلان، يثبّت صليباً على غطاء النعش بعد جفاف الطلاء، ومقابض على جانبيه لتسهيل حمله، وهذه تكون معدنية أو مذهّبة أو بلاستيكية «حسب طلب الزبون». لا يزوّد بيلان كل النعوش بالفراش الأبيض، بل يترك بعضها فارغاً. وهو تدبير اعتمده بعد الأزمة الاقتصادية، إذ أجبرت الضائقة المالية وانتشار الموت بسبب جائحة كورونا لجان الوقف في رعايا بعض البلدات على شراء تابوت واحد لاستخدامه في كل الجنائز. يقول: «صارت هناك ماركة جديدة اسمها: التابوت الجماعي. صمّمنا تابوتاً واحداً بمواصفات جيدة لرعايا بلدات في البترون وجبيل وكسروان والجبل. اشترته الرعيّة واحتفظت به. وفي حال موت أحد أبنائها، تشتري منا تابوتاً آخر رخيص الثمن، يكون عبارة عن صندوق خشبي خالٍ من أي تفصيل. يوضع الميت في الصندوق الذي يوضع بدوره داخل التابوت، فلا يظهر أمام الناس في الجنّاز سوى التابوت الفاخر».
لم تمر ظروف أقسى على العائلة التي امتهنت صناعة النعوش في الشمال. «رغم أن مصير التوابيت العادية أو الفاخرة هو الاهتراء بعد سنوات قليلة، إلا أن الجميع كانوا يحرصون على الالتفات إلى هذه التفاصيل. الأزمة أجبرت الناس على الاقتصاد في تكاليف الجنائز وتشاركها بين أهالي الرعية الواحدة» يقول بيلان. «تغيّر السوق منذ 2019. زاد الطلب على صناعة التوابيت في مقابل تكدس التوابيت المستوردة في المستودعات».
لا يقلّ سعر التابوت المستورد عن ثلاثة آلاف دولار. ويوضح بيلان أن «التابوت الأجنبي تعلوه قبّة نسميها طربوش على شكل جملون، وكل جنسية تعرف من تصميمها: الأميركي يصنع من الحديد وهو الأغلى، والبريطاني يكون مضلع الجوانب لأن الخيول كانت تحمله قديماً. وهناك الإيطالي والسويسري والكندي، وهي الأنواع التي كانت تطلب في جنائز لبنان». أما سعر «التابوت الوطني» فيبدأ من 250 دولاراً، ويرتفع بحسب نوع الخشب، سواء كان «ماسيف» أو سنديان، ونوع الدهان. الـ«إكسسوارات» أيضاً عامل مؤثر في السعر، كنوع الفراش والقماش والحفر المطلوب على غطائه ونوعية المقابض وغيرها. يشير بيلان إلى أن «آخر شحنة توابيت استوردناها كانت عام 2018. في مستودعاتنا توابيت مكدسة منذ عام 2000، منها ما يبلغ سعره تسعة آلاف دولار». كمعدل وسطي، «من بين كل مئة دفن، هناك عائلة واحدة لا تزال تطلب المستورد. لا تزال هناك فئات تهتم بالبرستيج وقادرة على البذخ حتى على أتراحها».
عائلة بيلان تعمل في «مهنة الموت» منذ عام 1958، عندما سقط ضحايا كثر من أهالي المنطقة في الحرب الأهلية المصغّرة في ذلك العام. لويس الجدّ كان «معلّم باطون»، فبات مقصداً لأهالي الضحايا الذين كانوا يطلبون منه صنع توابيت لهم من أخشاب «المورينا» التي يستخدمها في عمله، فكان يصمّم صندوقاً خشبياً بدائياً من دون أن يكترث أحد لتصميمه أو نوعيته بسبب الأزمة الاقتصادية والأمنية آنذاك. بعدها، أسّس لويس بيلان معملاً صغيراً لصناعة التوابيت، قبل أن يساعده ولده جان ويُدخل لوازم الدفن إلى خدمات المعمل. وبعد تعرض الأخير لأزمة صحية، تولى ولداه لويس ورودريغ المهمة. عند مدخل المعمل خزانة علّقت فيها «بدلات الأموات»، البيضاء والسكرية والرمادية بحسب عمر الميت. العمر يحدد أيضاً لون التابوت: الأبيض للأطفال والشباب. خارج المعمل، ركنت سيارات لنقل الموتى، وفي الداخل تصاميم لأكاليل الزهر. اتقنت العائلة مهنتها حتى ارتبط اسمها بالموت. لويس الذي درس التصميم الداخلي، انتهى به الحال إلى أن يقود سيارة نقل الموتى ويحمل التابوت إلى الكنيسة ومنها إلى المدافن. ضاحكاً، يتذكر الجهود الشاقة التي بذلها لإقناع والد زوجته بالموافقة على الزواج بابنته، وكيف يلقّبه بعض أصدقائه بـ«عزرائيل». «الموت حق» عبارة تناقلتها الأجيال في عائلة بيلان التي تصالحت مع الموت، حتى إن لويس الجد (90 عاماً) حجز تابوته وجهّزه في مستودع المعمل في انتظار موعد رحيله.
كلفة الجنازة بين 500 و2000 دولار
في انفجار مرفأ بيروت عام 2020، كاد عبدو الخوري أن يطمر بين التوابيت المعلّقة على رفوف معرضه للوازم دفن الموتى في شارع الجميزة في بيروت. قبل عام واحد، كان قد تولى إدارة المؤسسة التي أنشأها والده وأعمامه عام 1973، بعد تقاعده من عمله مديراً لإحدى المطابع. رغم أن المهنة درّت أرباحاً وفيرة على العائلة، إلا أنه آثر لعقود طويلة عدم الانضمام إلى الشركة العائلية لارتباطها في ذهنه بمآس. بعد عامين من تأسيسها، تحوّل موقعها إلى خط تماس في الحرب الأهلية، وبعد عام واحد توفّي والده. وفاة أعمامه وتقاعده من وظيفته أجبراه على إدارة الشركة. بعد تسلّمه شؤونها، انقلبت الدورة الاقتصادية التي أثّرت حتى على سوق تنظيم الجنائز، «إذا احتسبنا القيمة بالدولار بين ما قبل 2019 وما بعدها، نجد بأن كلفة الجنازة انخفضت. لكنها زادت على أصحاب المداخيل بالليرة اللبنانية».
تراجع المداخيل واحتجاز الودائع في المصارف أجبرا كثيرين على التقشف في جنازات أحبائهم. «زبائننا كانوا من الطبقتين الوسطى والغنية. قبل الأزمة، كانت تصل كلفة الجنازة إلى أكثر من 20 ألف دولار، تشمل نوعية التابوت وعدد السيارات في موكب الجنازة وكمية البنزين التي تستهلكه وطول المسافة من براد المستشفى إلى الكنيسة، ثم المدافن. فضلاً عن بدلات الشبان الذين سيحملون النعش والأكاليل والضيافة للمعزّين...». أما بعد الأزمة، فإن غالبية الجنائز «تكلف بين 500 و2000 دولار». يلفت الخوري إلى أن جائحة كورونا فرضت عادات جديدة في الجنازات، «كان النعش يرسل من دون مرافقة إلى الكنيسة للصلاة عليه، ثم إلى المدفن. ولم تكن هناك حاجة لاستخدام صالون الكنيسة وتوزيع المياه والقهوة للمعزّين والمأكولات الخفيفة لأصحاب العزاء». بعد استئناف التواصل الاجتماعي، اختصر كثر من أشكال الضيافة والاستقبالات.