الأكثر كلفة في تاريخه.. نزف الميدان يضغط على حزب الله قبيل المواجهة المقبلة

مع تصاعد التقديرات باقتراب مواجهة جديدة بين إسرائيل وحزب الله، يعود ملف القوة البشرية لميليشيا حزب الله إلى واجهة النقاش العسكري، لكن هذه المرة، لا يُطرح السؤال من باب الاستعراض، بل من زاوية الخسائر، وإعادة التنظيم، والقدرة الفعلية على خوض حرب برية جديدة بعد عام هو الأكثر كلفة في تاريخ الحزب منذ تأسيسه.

مصادر عسكرية لبنانية مطلعة على القوة العسكرية للحزب، وتستند إلى أكثر من مركز بحث إقليمي وغربي، تقول إن الصورة الحالية لقوة حزب الله "أكثر تعقيداً" من أي وقت مضى، وإن الأرقام المتداولة لا تعكس وحدها حجم الجاهزية، ولا نوعية القوة المتبقية. 

"الرقم الكبير" والقوة الفعلية

قبل حرب تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الحزب يروّج – وفق تصريحات علنية للأمين العام السابق حسن نصر الله – لامتلاكه كتلة بشرية تقارب مئة ألف مقاتل. لكن الكاتب والباحث اللبناني علي حمادة يعتبر أن هذا الرقم لم يكن يوما توصيفا للقوة القتالية الفعلية، بل "مظلة تعبئة" تشمل الاحتياط، والمتطوعين، وشبكات الدعم المحلي.

ويشير حمادة في تصريحات لـ "إرم نيوز" إلى أن مراكز أبحاث عسكرية غربية، بينها معاهد متخصصة في تتبع الحركات المسلحة غير النظامية، قدّرت قبل الحرب أن القوة البرية الجاهزة للقتال لدى حزب الله تتراوح بين 30 و40 ألف عنصر، مع تفاوت في مستويات التدريب والانخراط العملياتي.

وبعد وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، يشير حمادة - وفقا لتقديرات متقاطعة - إلى تراجع هذا الرقم بصورة ملموسة، ليس فقط بسبب القتلى، بل نتيجة خروج آلاف العناصر من الخدمة الفعلية، سواء لأسباب إصابة، إنهاك، أو تفكك منظومات القيادة والسيطرة في بعض الوحدات.

خسائر بشرية… ونوعية

ترجح مصادر عسكرية لبنانية، مقتل نحو أربعة آلاف عنصر من حزب الله خلال الحرب وما تلاها، في رقم يُعد غير مسبوق قياسا بجولات المواجهة السابقة.

لكن الأخطر، بحسب المصادر نفسها، أن نسبة معتبرة من هؤلاء ينتمون إلى وحدات ميدانية متقدمة، تشمل قادة سرايا، عناصر استطلاع، ومشغلي منظومات صاروخية ومسيرات.

مراكز بحث أمنية أوروبية ترى أن الحزب لا يعاني فقط من "نزف عددي"، بل من "نزف نوعي"، يتمثل في فقدان عناصر تمتلك خبرة تراكمية في القتال المتداخل بين البر والجو، وهي خبرة لا يمكن تعويضها سريعا عبر التجنيد. 

أين تتركز القوة اليوم؟

تنظيميا، ما زال حزب الله يحتفظ ببنية وحدات جغرافية تمتد من الجنوب إلى البقاع والضاحية، مدعومة بوحدات اختصاص تشمل المشاة، الصواريخ، الدعم اللوجستي، والقدرات البحرية المحدودة.

غير أن مصادر عسكرية لبنانية تشير إلى أن الثقل الحقيقي كان ولا يزال في وحدات النخبة، وفي مقدمتها "قوة الرضوان"، التي تعرضت خلال الحرب لضربات مركّزة، شملت مواقع تدريب، غرف قيادة، وخطوط انتشار أمامية.

قبل الحرب، قدّرت مراكز أبحاث عسكرية عدد عناصر "الرضوان" ببضعة آلاف فقط، لكنهم شكلوا رأس الحربة في أي سيناريو اقتحام بري. اليوم، ترجح المصادر أن هذه القوة تقلصت عدديا، وتضررت تنظيميا، ما انعكس مباشرة على قدرة الحزب على تنفيذ عمليات هجومية واسعة داخل الأراضي الإسرائيلية.

بين الدفاع والاستنزاف

تجمع مصادر لبنانية وعربية على أن القوات البرية لحزب الله لم تعد مهيأة، في وضعها الحالي، لمعركة مفتوحة وطويلة على غرار السيناريوهات التي سبقت 2023؛ فالانتشار بات أكثر تحفظا، والحركة الميدانية أكثر لامركزية، مع اعتماد متزايد على الدفاع الموضعي، ونيران الإسناد غير المباشر، بدلا من المناورة البرية الواسعة .

هذا التحول لا يُقرأ فقط عسكريا، بل سياسيا أيضا، وفقا للباحث مازن بلال، وخاصةً "في ظل الضغوط الداخلية المتصاعدة حول سلاح الحزب، ومسار تثبيت وقف إطلاق النار جنوب الليطاني، وهو ما يحدّ من حرية إعادة الانتشار والتدريب العلني".

يقول بلال لـ "إرم نيوز": من الناحية النظرية، لا يزال الحزب قادرا على فتح باب التعبئة. شبكاته الاجتماعية والتنظيمية لم تتفكك، وبيئته الحاضنة لم تنقلب عليه. لكن مصادر عسكرية لبنانية تشير إلى تغيّر ملموس في المزاج العام داخل هذه البيئة، حيث باتت كلفة الحرب - بشريا واقتصاديا - حاضرة بقوة في حسابات العائلات، خاصةً بعد عام من النزوح والدمار.

مراكز بحث اجتماعية ترى أن الحماسة الأيديولوجية لم تختفِ، لكنها لم تعد كافية وحدها لدفع موجات تجنيد واسعة، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وغياب أفق سياسي واضح للمواجهة المقبلة.

على ماذا يراهن الحزب؟

ترجح مصادر عسكرية أن حزب الله يراهن، في حال اندلاع حرب جديدة، على إدارة مواجهة طويلة النفس، تقوم على الاستنزاف، وتفادي الاشتباك البري الواسع، مع استخدام مكثف للنيران غير المباشرة، والمسيرات، وتكتيكات الإرباك.

كما يراهن الحزب، بحسب مراكز أبحاث غربية، على أن أي حرب جديدة ستكون مقيدة سياسيا، سواء من الجانب الإسرائيلي أو من الداخل اللبناني، ما يمنحه هامشا لإعادة ترميم قدراته تدريجيا تحت سقف مواجهة مضبوطة. 

وتخلص المصادر العسكرية إلى أن الحديث عن أرقام ضخمة لمقاتلي حزب الله لم يعد كافيا لفهم توازن القوة، فما تغيّر بعد الحرب الأخيرة هو نوعية القوة، وسقف الجاهزية، وحدود التعبئة.

وتختم بأن أي مواجهة مقبلة، سيكون السؤال الحقيقي فيها: هل ما تبقى من القوة البرية للحزب قادر على تحمّل اختبار طويل، أم أن حزب الله بات مضطرا للقتال بأدوات أقل وحسابات أكثر حذراً؟