المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الأحد 21 أيلول 2025 12:09:32
"لم أتخيّل يوماً أن أكون أمّاً لطفل يخضع لعلاج كيميائي. التجربة موجعة، ومُرهقة. أراه يتقيأ، ينهك جسده، يبهت لونه… حياتُه تغيّرت بالكامل"، تقول ريتا بو شبل نعمة، وهي تروي رحلة ابنها ماثيو مع المرض.
في عيد مولده الثاني، لم يقتصر الاحتفال على البالونات والكيك، بل حضر ضيف ثقيل اسمه الورم الخبيث، استقرّ في دماغه وهدّد نظره. طفل لم يكد ينطق كلماته الأولى، حتى وجد نفسه فجأة محاطاً بالأطباء والأنابيب المغروزة في عروقه والوخز والفحوص والأدوية. توقّف عن الذهاب إلى الحضانة، وتعلّم أن يقضي معظم وقته بين جدران المنزل.
تقول ريتا: "في البداية كان ينزعج ويرفض العلاج ويبدي شعوراً بالتعب. لكن مع الوقت صار يفهم الأمور ويساعد الأطباء. شرحتُ له كل شيء، وبات يردد أنه يُعالج ليحمي نفسه ويصبح أفضل وأقوى. لكن رحلة الإقناع كانت شاقة".
وعلى قسوة الرحلة، وجدت العائلة متنفساً صغيراً في قلب العاصفة: "أجواء البيت تغيّرت، بتنا نُدرك قيمة النِّعم أكثر"، تضيف الأم.
ثلاثة أطفال كل أربع دقائق
قصة ماثيو ليست استثناءً. في كل أربع دقائق يُشخَّص ثلاثة أطفال حول العالم بالسرطان. أي نحو 400 ألف حالة سنوياً. المفارقة أن تسعة من كل عشرة من هؤلاء يولدون في بلدان فقيرة أو متوسطة الدخل، حيث لا ينجو سوى خُمس المصابين. بينما في البلدان الغنية، يتجاوز معدّل البقاء على قيد الحياة 80 في المئة. هو أحد أكثر وجوه اللامساواة فداحة في خريطة السرطان.
شهر أيلول هو الشهر العالمي للتوعية على سرطان الأطفال، المناسبة التي يُسلَّط فيها الضوء على أحد أخطر الأمراض التي تصيب الصغار في عمر يفترض أن يكون مليئًا باللعب والاكتشاف، لا بالأسِرّة البيضاء والمستشفيات. هو شهر يذكّر بأن المرض لا يستثني أحدًا، وبأن الطفولة نفسها قد تُبلى بمعركة مبكرة مع السرطان، ما يستوجب جهوزية دائمة ورعاية صحية شاملة تحمي الأطفال من المضاعفات وتمنحهم حقّهم في الشفاء.
منظمة الصحة العالمية خصّت هذا الشهر بحملة توعية عالمية، تضع القضية في واجهة الاهتمام الدولي. وهي تعترف بوضوح بأن الوقاية من سرطان الأطفال غير ممكنة، لكنّ الأمل يظل قائمًا حين يُكتشف المرض مبكرًا ويُعالج بطريقة شاملة ومنهجية. ومن هنا، تدعو المنظمة إلى بناء أنظمة صحية "قادرة على الصمود"، أي أنظمة تستطيع تقديم العلاج الفوري والفعّال، وتضمن، بلا تمييز، حقّ كل طفل في أن يكبر بصحة جيدة، "بغض النظر عن مكان ولادته".
فبينما تمنح الدول ذات الدخل المرتفع فرص نجاة تفوق 80 في المئة، ما زالت آلاف العائلات في البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل تواجه حقيقة مرّة: أن بقاء أطفالها على قيد الحياة يتوقف على قوة النظام الصحي، أكثر مما يتوقف على قسوة المرض ذاته.
لبنان: المرض وسط الانهيار
في لبنان، يتضاعف الألم. فالمرضى الصغار يواجهون سرطانهم في قلب الانهيار الاقتصادي والصحي. منذ 2019، تحوّلت رحلة العلاج إلى معركة يومية مع النقص في الأدوية، وارتفاع كلفة العلاج بالدولار، وهجرة الكوادر الطبية، وانسداد الأفق أمام العائلات. والنتيجة: مرضى السرطان - ولا سيما سرطان الأطفال - يُتركون أمام خيارات موجعة. إمّا أن يدفع الأهل كلفة خيالية للعلاج، وإما أن يرهقوا أنفسهم بالبحث عن الدواء خارج الحدود، أو ببساطة أن ينتظروا مصيرهم المحتّم. والأمهات يعشن رعباً مزدوجاً: الخوف على حياة الطفل، والخوف من العجز.
في مركز سرطان الأطفال (السانت جود) في الجامعة الأميركية، الأعداد تشرح حجم الكارثة: أكثر من 5100 طفل تلقوا العلاج المجاني منذ 2002 بكلفة تجاوزت 200 مليون دولار، علماً أن المركز يستقبل نسبة من الأطفال المرضى لا تتجاوز الستين في المئة، فيما المتبقون يتلقون علاجاتهم في مستشفيات أخرى.
سرطان الأطفال هو أحد أبرز أسباب الوفاة المرضية بين الأطفال والمراهقين. أنواعه الأكثر شيوعاً: اللوكيميا، أورام الدماغ والجهاز العصبي، الأورام اللمفاوية، والورم الأرومي العصبي. أسماء علمية كبرى، تختصرها الأم ريتا بصرخة حقيقية "الأولاد ما بيستاهلوا الوجع".
في النهاية، يبقى السؤال معلّقاً فوق لبنان أكثر من أي مكان آخر: كيف يُطلب من طفل أن يقاتل مرضاً شرساً في بلد عاجز عن توفير الدواء؟ وكيف يمكن أن نسمح لمعادلة الولادة والموت أن تُختصر بجملة قاسية: "إذا كنتَ مولوداً هنا، فرصتُك أقل في الحياة"؟