الأيام الدامية في الساحل السوري

شهدت اللاذقية وطرطوس ليلة دامية بعد اندلاع معارك بين فلول النظام من جهة، وعسكريين وأمنيين سابقين لم يخضعوا لتسوية من جهة أخرى. منذ ليل الخميس، وصلت أرتال عسكرية إلى المدينتين، تعرضت لمحاولات استهداف من قبل مجموعات مسلحة معارضة. وما إن أُعلن عن انتهاء المعارك في جبلة، حتى انتشرت تقارير عن عمليات قتل ميداني نفذتها فصائل مجهولة التسمية والتبعية.
في صباح الجمعة، تصاعدت نداءات الاستغاثة من أبناء الطائفة العلوية، مطالبة بوقف عمليات القتل بحق المدنيين، وسط انتشار مقاطع مصورة مرعبة توثق عمليات تمثيل بالجثث وقتل بطرق احتفالية. بدأت أولى الجرائم في ريف بانياس، حيث وُصفت أعمال القتل هناك بأنها انتقامية، عشوائية، ولم تميز بين مدني وعسكري، دون أوامر واضحة من السلطة في دمشق أو وزارة الدفاع، مما أضفى على المشهد طابعاً إجرامياً.
ووفقاً للتقارير الواردة من إدارة العمليات العسكرية والمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد قتلى عناصر الأمن العام حوالي 100 شخص، في حصيلة أولية تعكس تصاعد العنف والانفلات الأمني في المنطقة.

بداية الانتهاكات
انتشرت الفصائل المسلحة ضمن عملية تمشيط بدأت من ريف بانياس باتجاه مدينة اللاذقية، بمشاركة مجموعات مختلفة إلى جانب عسكريين غير منتظمين، بعضهم وصل نتيجة التعبئة الإعلامية والتحريض الذي اتخذ طابعاً خطيراً، وامتد أحياناً إلى خطب الجوامع، وذلك خلافاً لتوصيات السلطة بعدم بث أي خطاب طائفي.
بدأت أولى الانتهاكات في ريف بانياس أثناء عملية التمشيط، حيث انتشرت مقاطع مصورة مرعبة توثق عمليات تصفية ميدانية، وظهرت صور لجثث وسط احتفالات لجنود مسلحين. ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد شهد ريف بانياس حتى مساء الجمعة إعدام ما يقارب الـ80 شخصاً داخل منازلهم.
وذكرت شهادات حصلت عليها "المدن"، أن الناجين تعرضوا للنهب، حيث سُلبت هواتفهم وأموالهم وسياراتهم، وأُجبروا على مغادرة منازلهم بعد أن أُلقي بهم في الطرقات، في مشهد من الفوضى والعنف المنفلت من أي سيطرة واضحة. وقالت إحدى الناجيات لـ"المدن"، إن القتلى تُركوا في أماكنهم مع وضع حراس لمنع التعامل معهم.

تمدد القتل
انتشرت الفصائل المسلحة ضمن عملية تمشيط بدأت من ريف بانياس باتجاه مدينة اللاذقية، بمشاركة مجموعات مختلفة إلى جانب عسكريين غير منتظمين، بعضهم وصل نتيجة التعبئة الإعلامية والتحريض الذي اتخذ طابعاً خطيراً، وامتد أحياناً إلى خطب الجوامع، وذلك خلافاً لتوصيات السلطة بعدم بث أي خطاب طائفي.
يأتي ذلك ضمن خطة عسكرية متكاملة، حيث توعدت الإدارة العسكرية بتمشيط الساحل بالكامل، والقضاء على الفلول، ونزع السلاح، في محاولة لفرض السيطرة الكاملة على المنطقة وإعادة فرض الأمن وفق التوجيهات العسكرية.
استمرت عمليات التمشيط في ريف القرداحة، وتفاوتت أساليب التفتيش، إلا أن مشهداً خاصاً برز في هذه العمليات، حيث سُجلت عمليات قتل في بعض المناطق دون غيرها، وفقاً لأحقاد وصراعات اجتماعية وسياسية قديمة. ولم يقتصر الانتقام على عمليات القتل، بل شمل أيضاً نهب المناطق المستهدفة، وإرهاب سكانها عبر إطلاق النار، وشتم العلويين، وتعذيبهم دون قتلهم في بعض الحالات، بينما نُفذت عمليات تصفية ميدانية في حالات أخرى.

انتقام محدد الأهداف
تركز الانتقام بشكل خاص في المناطق التي شهدت معارك سابقة مع فلول النظام، مثل ريف جبلة وريف اللاذقية، حيث تعرض الشباب العلويون للاعتقال والتعذيب أمام عائلاتهم وأطفالهم. كما جرت تصفية عسكريين لم يخضعوا لتسوية، بالإضافة إلى آخرين كانوا قد خضعوا لها، ما يعكس حالة من الفوضى والانتقام غير المنظم في سياق العملية العسكرية الجارية.
ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد القتلى الموثقين حتى مساء الجمعة 230 شخصاً، وسط صراع كبير حول حقيقة هذه المجازر. شكلت مشاهد القتل ومقاطع الفيديو المنتشرة صدمة عارمة، حيث تصاعد الجدل حول ما إذا كانت هذه المشاهد تعود إلى عهد النظام السابق أم أنها توثق أحداثاً جديدة.
وقعت عمليات التصفية بحق المدنيين في عدة قرى وبلدات ذات غالبية علوية، بدءاً من قرى ريف بانياس، ثم ريف القرداحة، بيت عانا، جبلة، دوير بعبدة، قرية المختارية، بلدة الحفة، قرية قرفيص ويحمور، وتمددت على طول الطريق الساحلي من طرطوس إلى اللاذقية. 
أُضيف إلى ذلك أن فصائل وعناصر أجنبية شاركت في توثيق هذه الأحداث، حيث قامت بتصوير مقاطع فيديو ونشرتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أثار ظهور هؤلاء الأجانب وقيامهم بعمليات التمشيط صدمة كبيرة، واتهام بعض السوريين لهم بمسؤولية عمليات قتل كبيرة سابقة، وتوجيه اتهامات لكذب وعود السلطة بشأن إبعاد الأجانب عن الجيش.
بدأت صدمة المجتمع السوري تصل إلى السلطة، التي سارعت في صباح اليوم التالي، عبر شخصيات مقربة منها، إلى انتقاد تصرفات الفصائل المسلحة التي لا يعرف لها السوريون اسماً أو انتماءً محدداً. ورغم أن الأوامر صدرت من وزارتي الداخلية والدفاع لحسم المعركة مع الفلول، لم تتوقف عمليات القتل حتى صباح السبت، حين بدأت الجثث بالظهور، بعد أن تمكن بعض الأهالي في بانياس من كسر الحصار جزئياً، ومساعدة العلويين على فتح البيوت والبحث عن المفقودين.
لكن سرعان ما دخل المشهد مرحلة خطيرة من الانقسام داخل السلطة، التي حاولت في وقت متأخر جداً التبرؤ من أفعال بعض الفصائل العسكرية، في ظل تفاقم الجرائم في اللاذقية وطرطوس. انتشرت النعوات منذ صباح الجمعة وحتى يوم السبت، فيما حاول الإعلام الرسمي إنكار الجرائم والتنصل منها. بالتوازي، سعى بعض الإعلاميين إلى تحميل مقداد فتيحة، أحد قادة الفلول، مسؤولية هذه المجازر، ما زاد من حالة الانقسام داخل المجتمع السوري.
في ظل هذا المشهد، برزت مشادات إعلامية حادة، حيث تداخلت مشاعر الشماتة والتبرؤ من السلطة مع محاولات تبرير أفعال الفصائل بوصفها "رد فعل طبيعي" في إطار الانتقام أو التعويض النفسي عمّا فعله النظام في أماكن أخرى. تصاعد الإنكار الجماعي، وسعت أطراف عدة إلى التنصل من المسؤولية، بينما انتشرت الروايات التبريرية التي أعادت تأطير المجازر ضمن سياق الانتقام والتصفية السياسية.

هروب جماعي
بحلول ظهر السبت، نشر المرصد السوري لحقوق الإنسان إحصاءً جديداً، أكد فيه وصول عدد القتلى المدنيين إلى نحو 500 شخص، بينهم أطفال ونساء وفتيان، تمت تصفيتهم بعمليات قتل مباشرة واستعراضية. ورغم استمرار دعوات السلطة لإيقاف عمليات القتل، أصدرت الإدارة العسكرية تعميماً يدعو إلى انسحاب الفصائل من الساحل، وتحريم السرقة والقتل العشوائي.
نقل مسؤول عسكري في الجيش تصريحاً رسمياً، أعلن فيه إيقاف العمليات في منطقة الساحل حتى إخراج العناصر غير المنتمين إلى المؤسسة الأمنية والعسكرية، والبدء بملاحقة حاملي السلاح الذين يرتكبون السرقات في مدن الساحل السوري قبل استئناف العمليات العسكرية.
لكن حتى اللحظة، لم تلقَ هذه التوجيهات أي استجابة، حيث استمرت عمليات التمشيط العشوائية في قرى اللاذقية دون أي التزام من الفصائل بأوامر السلطة، التي باتت تعاني من ضعف شديد على المستويين التنظيمي والعسكري.
في ظل هذا الانفلات، تعرض ريف جبلة العلوي لعمليات نهب واسعة، شملت جميع القرى التي تمت مداهمتها، وسط انتشار مقاطع مرعبة توثق القتل والسرقة والتنكيل دون أي توقف، بينما يقف السوريون أمام مشهد متسارع من الفوضى والعنف الذي خرج عن أي سيطرة واضحة.
وأدت هذه العمليات إلى فرار الآلاف من العلويين إلى الجبال والأراضي النائية، بينما لجأ بعضهم إلى قاعدة حميميم العسكرية، حيث افترشوا ساحتها خوفاً من مجزرة قد تطالهم. في المقابل، فتح بعض سكان بانياس السنة بيوتهم لإيواء العلويين، كما حدث في مدينة اللاذقية، في مشهد عكس حالة من الذعر والتشتت.
شهد يوم الجمعة الفائت انفلاتاً أمنياً جديداً، حيث اندلعت معركة وسط مدينة اللاذقية بين مجموعات مسلحة، قالت الإدارة العامة إنها تضم "فلولاً" حاولوا الوصول إلى المشفى الوطني. بينما يترقب سكان اللاذقية وطرطوس خروج الفصائل المسلحة وانتظام الأمن العام لحمايتهم، وسط مخاوف من استمرار المجازر وعدم وضوح نهايتها.
أما السلطة، فقد تلقت اليوم ضربة قاسية في أعين الجميع، بعدما عجزت عن إيقاف الفصائل أو فرض سيطرتها عليها، مما عمّق حالة الفوضى وأكد انهيار قدرتها على ضبط المشهد الأمني في الساحل السوري.