المصدر: الديار
الكاتب: ربى أبو فاضل
الأحد 2 تشرين الثاني 2025 07:13:24
في زمنٍ باتت فيه الشاشات نافذتنا الأولى على العالم، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي من مساحة للتعبير والتواصل إلى مكون أساسي في الحياة اليومية للشباب اللبناني، ومع اشتداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أصبحت هذه المنصات ملاذا افتراضيا يختلط فيه الهروب من الواقع مع البحث عن معنى، في بلد تآكلت فيه فرص العمل والأمل وتفاقمت فيه معدلات الفقر، فبين سطور منشور وصور مفلترة ومقاطع "ريلز" راقصة، تتخفى قصص الضياع، والطموح المكسور، ومحاولات للهرب من واقع خانق، ومع مرور الوقت، لم يعد هذا الهروب الافتراضي مجرد متنفس، بل أصبح جزءاً من يوميات جيل بأكمله ينسج واقعه من وراء الشاشات.
فهذه المنصات لم يعد استخدامها مجرد وسيلة للتسلية أو التواصل، بل تحول لدى كثيرين إلى إدمان يومي يتجاوز حدود السيطرة، فالشاب اللبناني، الذي يعيش في ظل انقطاع الكهرباء وغلاء المعيشة وتراجع الأمان الاجتماعي، يجد في هاتفه عالماً بديلاً يمنحه لحظات من الانتماء المؤقت والاهتمام الزائف.
وبحسب دراسة حديثة، فإن 95% من الشباب اللبناني يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، ويقضون ما يقارب ثلاث ساعات يومياً على هذه المنصات، ما يجعلها اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياتهم النفسية والاجتماعية والمهنية، وهذه الأرقام لا تبقى حبيسة الدراسات، بل تنعكس بوضوح في يوميات الشباب وتجاربهم الشخصية.
وفي خضم هذا التعلق بالعالم الافتراضي، تتجلى تجارب الشباب بأشكال مختلفة، تعكس مزيجاً من الهروب والبحث عن الذات، تقول ليلى، وهي طالبة جامعية "أقضي معظم وقتي على إنستغرام وتيك توك، أشعر أنني أعيش هناك أكثر مما أعيش في الواقع، الحياة الحقيقية مرهقة، بينما العالم الافتراضي يمنحني لحظات من النسيان".
لكن التجربة لا تقتصر على الترفيه أو الهروب، فبالنسبة إلى كثيرين باتت المنصات الرقمية وسيلة للبقاء والبحث عن فرصة يقول جاد، وهو خريج جامعي عاطل من العمل: "أبحث كل يوم عن فرص عمل على لينكدإن أو عبر مجموعات فيسبوك، أحياناً أشعر أن حياتي معلقة بإشعار أو رسالة واردة، كأن مستقبلي يتوقف على شاشة".
هذا التداخل بين المهني والشخصي ينعكس أيضاً في حياة من يعملون داخل المجال الرقمي نفسه، فنادين، وهي موظفة في شركة تسويق رقمي تشير إلى أن "عملنا كله على الإنترنت، لكن المفارقة أنني بعد الدوام أجد نفسي أعود لتصفح المنصات نفسها بدافع العادة، كأننا أصبحنا أسرى لدوامة لا تنتهي من التمرير والمقارنة".
غير أن الصورة لا تبدو قاتمة بالكامل، فبين من يشعر بالاختناق الرقمي، هناك من يجد في هذه المنصات مساحة للتعبير والتمكين الذاتي، حيث يرى يوسف، طالب الإعلام، أن للعالم الافتراضي وجهاً إيجابياً، إذ أتاح له إيصال صوته "أنشر فيديوهات عن القضايا الاجتماعية، وأشعر أن هناك من يسمعني، لكن في الوقت نفسه، كل إعجاب أو تعليق صار يقيس قيمتي، وأحياناً يسبب لي توتراً نفسياً."
أما رشا، فتنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، معتبرة أن "مواقع التواصل الاجتماعي تجعل كل شيء يبدو جميلاً خلف الفلاتر، بعكس الواقع"، وتضيف بأسى: "لقد جعلتنا قريبين من بعضنا ظاهرياً، لكن في الحقيقة لم نكن يوماً أبعد من اليوم".
وما تعبر عنه هذه الشهادات لا ينفصل عن واقع موثق بالأرقام، إذ تؤكد الدراسات أن الإدمان الرقمي في لبنان بات ظاهرة متنامية تتقاطع مع التدهور النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الشباب، ويؤكد خبراء علم النفس أن "الإفراط في استخدام المنصات الرقمية يترك آثاراً عميقة على الصحة النفسية، خصوصاً في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعيشها البلد، إذ يتحول الاستخدام المفرط تدريجياً إلى إدمان قهري يغذى بالشعور الدائم بالحاجة إلى التفاعل، والخوف من الغياب عن العالم الافتراضي المعروف بظاهرة الخوف من الفقدان الرقمي".
وأشاروا إلى أن "هذا الارتباط المرضي بالشاشات يؤدي إلى اضطرابات في المزاج والنوم، ويزيد من معدلات القلق والاكتئاب، خصوصاً لدى الفئات التي تعاني من العزلة أو البطالة، ومع تزايد المقارنة مع «حياة الآخرين المثالية» يشعر كثيرون بالدونية والفشل، ما يفاقم مشاعر الإحباط وفقدان القيمة الذاتية".
وإذا كان علماء النفس يحذرون من الآثار الفردية للإدمان الرقمي، فإن علماء الاجتماع يرون في الظاهرة بعداً جماعياً أعمق يعكس هشاشة الواقع اللبناني، فالشباب الذين حرموا من فرص العمل والسكن والحياة المستقرة، باتوا يصنعون لأنفسهم هوية رقمية بديلة يعبرون من خلالها عن ذواتهم أو يبيعون صورة لحياة لا يعيشونها فعلا، ويضيف أحد الخبراء أن "هذه الظاهرة خلقت جيلاً يتفاعل أكثر مع الصور والرموز الافتراضية من تفاعله مع محيطه الواقعي، فالمحادثات الإلكترونية حلت مكان اللقاءات الحقيقية، والعلاقات أصبحت هشة وسريعة الزوال، أما لغة التواصل فقد تحولت إلى رموز مختزلة ومشاعر مؤقتة، ما جعل الحوار الواقعي أكثر صعوبة والقدرة على التعبير العميق عن الذات أضعف من أي وقت مضى."
ومع هذا التحول في طبيعة العلاقات والتواصل، يمتد أثر المنصات إلى جانب آخر لا يقل أهمية، الواقع المهني والاقتصادي للشباب، ففي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، تحولت المنصات الرقمية إلى سوق عمل بديلة ومتنفس اقتصادي للباحثين عن فرص، إذ وجد كثيرون فيها وسيلةً للبقاء بعد انهيار الليرة وإقفال المؤسسات، غير أن هذا الواقع يبقى هشاً وغير مستدام، كما يوضح خبير اقتصادي فضل عدم الكشف عن اسمه، مشيراً إلى أن "الاقتصاد الرقمي في لبنان لا يزال غير منظم قانونياً، ما يترك الشباب من دون حماية مهنية أو ضمانات اجتماعية"، مضيفاً أن "الجيل الجديد يعيش ازدواجية مؤلمة بين طموحٍ مهني متأثر بالنماذج العالمية التي يشاهدها على السوشيال ميديا، وواقع محلي يفتقر إلى البنية التحتية والفرص الفعلية لتحقيق هذا الطموح."
كما ساهمت المنصات في إعادة تعريف مفهوم النجاح المهني، إذ باتت الشهرة الرقمية تقاس بعدد المتابعين لا بالمؤهلات أو الكفاءة، ما أدى إلى انزياح في القيم المهنية وخلق حالة من التنافس غير المتكافئ.
فأمام هذا الواقع المعقّد، يجمع الخبراء على أن مواجهة الإدمان الرقمي لا يمكن أن تتم عبر المنع أو التقييد فقط، بل من خلال مقاربةٍ تبدأ من الوعي وتنتهي بإصلاح السياسات العامة.
فمن الناحية التربوية، يشدد الاختصاصيون على ضرورة إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية، لتعليم الأطفال والمراهقين كيفية استخدام المنصات بوعيٍ ومسؤولية، وتمييز الواقع عن الصورة المفلترة التي تفرضها الخوارزميات، كما يوصى بإعادة تفعيل دور المدرسة في بناء مهارات التواصل الاجتماعي والأنشطة الجماعية، لتخفيف الاعتماد على التفاعل الافتراضي كمصدر وحيد للقبول والانتماء.
وعلى المستوى النفسي، يدعو الخبراء إلى تعزيز خدمات الدعم والإرشاد النفسي في الجامعات والمدارس ومراكز الشباب، وتدريب الأهل على مراقبة استخدام أبنائهم للشاشات دون وصم أو قمع، أما اجتماعياً، فتبرز الحاجة إلى مبادرات تعيد إحياء الحياة العامة عبر الفنون والأنشطة التطوعية، إلى جانب سياسات وطنية للصحة النفسية الرقمية تراقب المحتوى الضار وتنشر الوعي.
في نهاية المطاف، يبقى الشباب اللبناني عالقا بين واقعٍ مأزوم لا يرحم، وعالم افتراضي يمنحه ما يشبه الطمأنينة المؤقتة، وبين ضغط البقاء وسراب الشهرة، تضيع الحدود بين الحقيقي والرقمي، بين الذات وما تظهره الشاشات، فربما لم يعد السؤال اليوم كيف يستخدم الشباب مواقع التواصل الاجتماعي، بل كيف يمكنهم استعادة توازنهم الإنساني وسط هذا الطوفان الرقمي، كيلا يصبح الهروب من الواقع واقعهم الدائم، والشاشة نافذتهم الوحيدة إلى عالم لم يعد يشبههم.