المصدر: الجمهورية
الكاتب: د. منير راشد
الخميس 28 تشرين الأول 2021 08:27:25
كتب د. منير راشد في الجمهورية: من أهم مخلّفات الأزمة الحالية هي الخسارات التي سجّلها القطاع العام وانعكست في استهلاك الجهاز المصرفي لمعظم ودائع المواطنين. لقد استثمرت المصارف معظم ودائع الزبائن في القطاع العام، وأغلبها من خلال مصرف لبنان، والذي بدوره استخدمها لتغطية نفقات الدولة ومؤسساتها. فالسلطة أساءت الأمانة ولم تستطع إدارة الاقتصاد بفعالية وشفافية. واستمر المواطن بتحمّل التكلفة الباهظة من مُخلّفات الأزمة وتمثلت بالأخص بارتفاع البطالة، وانتشار الفقر، والتضخم وقضم ودائعه. ومن الواضح انّ سياسات خفض هذه الأعباء من خلال الدعم جاءت مغايرة لتطلعات المواطن ورغبة السلطة. يجب إعطاء الاولوية في الحل لتعويض الودائع بالدولار في مصرف لبنان، كونها تمثل ما يفوق الـ60% من مجمل الودائع وتفتقد لأية ضمانات.
يعتبر المواطن انّ تحرير ودائعه من أهم همومه، وقد استجاب البيان الوزاري بالإشارة الى انّ خطة الإصلاح للقطاع المصرفي التزمت ان تلحظ "إعطاء الاولوية لضمان حقوق وأموال المودعين". فهدر اموال المواطن نفّذها القطاع العام ويجب ان يتحمّله. لقد تكبّد القطاع الخاص بما فيه الكفاية، والتفكير بتطبيق "هيركات" على الودائع او توزيع الخسائر، هو من ابسط الحلول، ولكنه الأسوأ، وقد يواجه دستورياً وقضائياً. كما انّ "الهيركات" تُمارس حالياً على السحوبات وكلّفت المواطن خسارات توازي 5 مليارات دولار. انّ الإجراءات التي مُورست منذ بدء الأزمة أدّت الى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي والمالي، بدلاً من إصلاحه، ولم تبد السلطة اهتماماً لمعالجته. فهل تستطيع الدولة الالتزام بإعادة مدخّرات المواطن وثقته؟
اولاً: الإصلاح
انّ الخطوة الاولى لإعادة الثقة تتمثل باتخاذ إصلاحات نقدية ومالية وهيكلية، ومن أهمها تحرير وتوحيد سعر الصرف حالاً لجميع المعاملات، لما لتعدد اسعار سعر الصرف من مضار جسيمة على الاقتصاد. وإذا كان الاعتقاد بأنّ الضرر من السيولة يشكّل عبئاً على الاقتصاد، فلا بدّ من الإدراك انّ ضرر تعدّد الاسعار وحجز الودائع هو أعمق من أثر السيولة. انّ تحرير سعر الصرف والسحب من الودائع على السعر الحرّ بحدّ ذاته، يوفّر حلاً هاماً لمعضلة الودائع والوصول اليها، وسيكون المودع راضياً بأن يعُوّض عن ودائعه بالدولار بالليرة على أساس سعر السوق الحر. وحينها سيتخلّى عن المعاملات النقدية التي أغرقت الاقتصاد بالسيولة وسارعت في انهيار الليرة. انّ تحرير سعر الصرف آتٍ ولا مفرّ منه، فالأجدى اعتماده حالاً لتفادي تكلفة التأجيل التي ستكون أكثر خسارة.
ثانياً: تطبيق خطة إنقاذ ذاتية لمصرف لبنان للتعويض عن خسارة 65 مليار دولار "self- bailout"
في المرحلة الثانية او تزامناً، يتوجب معالجة الودائع لدى مصرف لبنان بالدولار التي لا تقابلها أية ضمانات وتشكّل نحو 65 مليار دولار من مجمل الودائع البالغة 106 مليارات دولار في نهاية حزيران. اما الودائع الاخرى فهي مستثمرة في القطاع الخاص والسندات وتقابلها ضمانات.
واستُخدمت الـ 106 مليارات من الودائع بالدولار كالآتي:
* ودائع لدى مصرف لبنان من المصارف بلغت نحو 65 مليار دولار (مقدّرة، كون مصرف لبنان لا يصرّح عن هذا الرقم).
* استثمارات المصارف في اليوروبوند للدولة اللبنانية (8 مليار دولار).
* قروض للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم بالدولار (23 مليار دولار).
* أصول اخرى للمصارف بعملات اجنبية ومن ضمنها حيازات في الفروع بالخارج (10 مليار دولار).
لا بدّ من اللجوء الى موجودات القطاع العام النقدية والحقيقية، للتعويض عن الودائع في مصرف لبنان التي استُهلكت والتي يُفترض غير متوفرة ومعظمها خسارات (في الكهرباء وغيرها)، ولا تقابلها أية ضمانات. فالقطاع العام ككل هو من أهدر هذه الودائع، وساهم في ذلك عدم الإكتراث او القدرة للجهاز الرقابي والسلطتين التنفيذية والتشريعية الإشراف الفعّال على أداء القطاع على الرغم من التحذير من مخاطر تخطّي الملاءة اللازمة خلال عقود.
انّ الاسلوب الأبسط والأكثر فعالية يتمثل باستخدام، اولاً، ما تبقّى من اصول مصرف لبنان النقدية بالعملات الاجنبية لإعادة اموال المستثمرين (المودعين)، كما يحدث حين يتعثر القطاع الخاص عن التزاماته. فمن الممكن إعادة نقداً 14 مليار دولار الى المصارف من الاحتياطي الإلزامي المتبقي. وقد تعيد السلطة النظر، إضافة، في تسييل جزء من الذهب وإيداعه في المصارف للتعويض عن الودائع. انّ الاعتقاد بأنّ الذهب هو سند للثقة هو اعتقاد خاطئ، ويعطي ثقة زائفة لأداء الاقتصاد. وكما هو معلوم، فانّه يُعتبر في كل دول العالم، كجزء من الاحتياطي النقدي ويُستعمل على هذا الأساس. بعد تحرير سعر الصرف وتوقف مصرف لبنان عن تزويد النقد الأجنبي للسوق، تصبح إدارته اكثر فعالية وتركّز على إدارة السيولة للعملة الوطنية.
ثانياً، استخدام أصول حقيقية للدولة من خلال الخصخصة، للتعويض عن المبلغ المتبقي البالغ 51 مليار دولار. ويُقدّر مجموع قيمة مؤسسات الدولة القابلة للخصخصة في المرحلة الاولى (الهاتف -اوجيرو، الطيران - الميدل ايست، الكهرباء، عقود استئجار المرفأ وشركات عقارية والمطار وبلوكات المياه البحرية- الغاز والنفط، الخ....) بما لا يقل عن 50 مليار دولار، بالإستناد الى تقييمها على أساس الأرباح المتوقعة بإدارة خاصة. والسؤال هو كيف ستأتي الـ51 مليار دولار؟ من خلال التالي:
- إنشاء شركات مساهمة منفردة لكل مؤسسة أساسية من مؤسسات القطاع العام بإدارات خاصة في أسرع وقت، وتصدر مقابلها أسهماً سوقية مقيمة بالدولار على غرار أسهم الشركات المدرجة حالياً في بورصة بيروت
(كسوليدير وغيرها). ويُستعان بالخبرات المحلية والدولية المتخصصة لتشكيل لجنة خاصة مهمتها تنفيذ هذا الهدف ولإصدار اكتتابات جديدة. وتُعرض هذه الأسهم تدريجياً من خلال بورصة بيروت، وتتاح لمن يرغب، بمن فيهم المودعون المقيمون وغير المقيمين. ومن الطبيعي ان يتمّ شراء جزء هام من هذه الأسهم من قِبل شريحة واسعة من المودعين من حساباتهم المصرفية، فتكون الحصيلة استبدال الودائع بأصول حقيقية وتنخفض بالنتيجة ميزانيات المصارف بالمبلغ المقابل. وللتذكير، انّ خطة الحكومة الإصلاحية للكهرباء في 2003 استندت الى خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان.
- أما الاسهم التي يتم شراؤها من حسابات جديدة وتحويلات من الخارج، ستوفر دخلاً بالدولار لتغذية المقابل للودائع المتبقية بالدولار في المصارف. انّ من لا يرغب بشراء الأسهم الجديدة فتبقى ودائعه في المصارف، ولكن سيكون مقابلها الآن أصول نقدية بالعملة الصعبة، إنما على اساس نسبي بقدر ما يتمّ المشاركة من المستثمرين المقيمين وغير المقيمين بهذه الأسهم الجديدة.
هذا يعني انّ الدولة لا تفرط بموارد القطاع العام، وانما تنتقل ملكيته الى المواطن، مع الحفاظ على توزيع عادل لهذه الموارد، من خلال الحدّ من الملكية الفردية لكي تستفيد منها شريحة واسعة من المواطنين. أي انّ الودائع غير السائلة المتبقية ستُستبدل بأسهم حقيقية مصدرها اصول للدولة.
النتيجة، هي إعادة القيمة الحقيقية والنقدية للودائع التي كانت هالكة في مصرف لبنان، فتُصبح مُكوّنة من النقد الاجنبي الجاري، ولأجل وما تبقّى، سيتكون من الاصول الحقيقية. أما من ليس له ودائع فسيستفيد من الإصلاح وتحسين ادارة الاقتصاد واستعادة نموه وفرص العمل. ومن يعارض الخصخصة كالشركات الاستشارية الأجنبية، تستهدف الاستمرار في الاعتماد على التمويل الخارجي وحذف الودائع على الرغم من مخاطرهما.
وتُقدّم الحجة ضدّ الخصخصة انّ القطاع العام هو ملك للجميع وليس لأصحاب الودائع فقط. لكن الردّ انّ إدارة القطاع العام أدّت الى إفلاس الجميع الغني والفقير ومن يملك ودائع او يفتقدها. انّ الحلول البديلة المقترحة هي ان تستمر الدولة بالإدارة الفاشلة لمؤسسات القطاع العام او سلب ودائع المواطن. انّ الخصخصة وتعويض الودائع هما الأمثل. كما انّ الخصخصة تؤدي الى تحسين أداء الاقتصاد ورفع مستوى معيشة جميع فئات الشعب اللبناني. ومن يعتقد انّ بيع مؤسسات الدولة في الوضع الحالي سينتج منها دخل زهيد، فهذا تحليل خاطئ، لأنّ الاصول الحقيقية تُقيّم على أساس امكانية الأداء المستقبلية.
انّ حسابات المصارف ومصرف لبنان سوف تتعدل لتعكس هذه المعاملات: فستنخفض الودائع في المصارف وما تقابلها من أصول المصارف في مصرف لبنان، بقدر ما يتم شراء الشركات الحديثة من الودائع المجمّدة. اما ميزانية مصرف لبنان فستنخفض بمقدار 14 مليار دولار الموازية، إضافة الى مدى التعويض عن الودائع بالدولار المتبقية في المصارف من خلال الخصخصة. ولكي لا تتعرض المصارف لضغوط السحب النقدي من الودائع المتبقية لديها، تقوم في البداية بجدولة الودائع على أساس روزنامة متعددة الآجال.
اما الاقتراحات السابقة التي دعت الى إنشاء صندوق سيادي ليحوي مؤسسات الدولة لكي يعوّض من أرباحه عن الودائع، فهو اقتراح عقيم، لأنّ ادارته تبقى بيد الدولة غير المؤهلة، والتعويض سيستغرق اجيالاً.
وختاماً، وفي ما يخصّ الودائع بالليرة وتقابلها ضمانات من خلال القروض المضمونة وسندات الدولة، ولا بدّ من إخضاعها لجدولة واضحة. انّ حل مشكلة الودائع وتوفر السيولة (اضافة الى الإصلاحات الاخرى) أصبحا ضروريين لإعادة الثقة ودعم النمو الاقتصادي. ومن المتوقع انّ حل أزمة مجمل الودائع ستكون العمود الفقري للإصلاح وإعادة الثقة.