المصدر: المدن
الكاتب: خضر حسان
الخميس 19 كانون الاول 2024 12:06:00
افترضت المعاهدة عند توقيعها من قِبَل رئيسيّ الجمهوريّتين آنذاك حافظ الأسد والياس الهراوي، أن "جذور القربى والتاريخ والانتماء الواحد"، ستمكِّن البلدين من "تحقيق أوسع مجالات التعاون والتنسيق"، وهذا الأمر سوف "يخدم مصالحهما ويوفّر السبل لضمان تطورهما وتقدمهما وحماية أمنهما القومي والوطني ويوفّر الازدهار والاستقرار ويمكّنهما من مواجهة جميع التطوّرات الإقليمية والدولية ويستجيب لتطلّعات شعبيّ البلدين".
التصوّرات المثالية في المعاهدة، كانت تغطّي قبح نتائج التدخّل السوري في لبنان منذ العام 1967، وتوهِم اللبنانيين بأن أخوَّتهم مع سوريا في ظل نظام الأسد، ستضمن الازدهار بعد حرب أهلية مرهِقة ومدمِّرة. وفي المحصِلة، باتت المعاهدة عبارة عن تشريع لعلاقة غير متوازنة طغى فيها الجانب السوري على اللبناني، ليس فقط في النواحي السياسية والأمنية، وإنما الاقتصادية أيضاً. كما أن فرض النظام السوري سيطرته على لبنان وخرقه لسيادته، تناقضَ تماماً مع مضمون المادة الأولى من المعاهدة، والتي نصّت على أنه "تعمل الدولتان على تحقيق أعلى درجات التعاون والتنسيق بينهما في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والعلمية وغيرها، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كلّ منهما". وجرى تثبيت العلاقة غير المتكافئة في هذه المعاهدة، عبر 41 اتفاقية موازية موقَّعة بين العامين 1991 و2010.
ومردُّ استمرار عدم التوازن في العلاقة، لا يقبع في حرفية نصوص الاتفاقيات، بل في طبيعة النظامين الاقتصاديين المختلفين بين لبنان وسوريا والتي سمحت للبضائع السورية بالاستفادة من دعم الدولة واهتمامها بالقطاعات الإنتاجية، خصوصاً الزراعة والصناعة، في مقابل غياب دعم الدولة اللبنانية لهذين القطاعين. وبإفادة من استباحة النظام السوري للسيادة اللبنانية ورعايته نظام الفساد، أُغرق السوق اللبناني بالبضائع السورية. وبرأي رئيس دائرة الأبحاث والدراسات المالية والاقتصادية في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، فإن "العلاقة التجارية بين لبنان وسوريا بقيت فوضوية ولم تُحتَرَم الرزنامة الزراعية. كما استمرّ التهريب إلى لبنان، وهذا الأمر أضرَّ القطاع الزراعي. والتهريب غير مندرج في الاتفاقيات، لا بل يناقضها".
إعادة النظر بالاتفاقيات
أدّت السطوة الأمنية لنظام الأسد في لبنان إلى وأد الاعتراض على عدم تكافؤ العلاقة بين البلدين، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، رغم أن الاعتراض كان موجوداً لكنه لم يكن مباشِراً، فكان المزارعون والصناعيون والتجّار يطالبون الدولة بدعم الإنتاج المحلّي وحمايته من المنافسة غير المتكافئة مع البضائع المستورَدة، وكذلك بمكافحة التهريب، وتحديداً عبر الحدود البرية. ومع سقوط النظام، بات المطلب أكثر وضوحاً، إذ طالبت الهيئات الاقتصادية بإعادة النظر بالاتفاقيات مع سوريا "بما يحقق مصلحة لبنان بشكل متوازن وسليم على كافة الأصعدة لاسيما الاقتصادية والتجارية". وربطت الهيئات إعادة النظر بـ"الأخذ بالاعتبار الظروف الاقتصادية الراهنة والتحديات التي تواجه لبنان، مع التركيز على ضمان تعزيز الإنتاج الوطني وحماية القطاعات الاقتصادية اللبنانية بما يتماشى مع المصلحة الوطنية العليا".
ويؤيّد غبريل إعادة النظر بالاتفاقيات، إذ أن "سوريا ليست سوقاً أساسية للاستيراد من لبنان بل للتصدير إليه". وتبيِّن ذلك الإحصائيات السنوية السورية للأعوام بين 1985 و2010 الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، وترجمها المجلس الأعلى السوري اللبناني، إلى جداول ورسوم بيانية توضح تلك العلاقة
وبحسب ما يقوله غبريل لـ"المدن"، لا ضير في إعادة النظر "خصوصاً بالنسبة للاتفاقيات طويلة الأمد، فهو إجراء طبيعي ويحصل في كل دول العالم بحسب تطوّر مراحل تطبيق تلك الاتفاقيات". ووجوب إعادة النظر بالاتفاقيات لا يقتصر على الجانب اللبناني، لأن "سوريا أيضاً عليها تقييم نتائج الاتفاقيات. فهي خارجة من حرب منهكة ومن فساد نخر مؤسساتها وتعاني من هجرة صناعييها وتجّارها وهناك تحدٍّ كبير أمامها في ملف إعادة الإعمار والبحث عن مصادر تمويل، كما أنها على اللائحة الرمادية منذ العام 2010".
مسؤولية الدولة اللبنانية
ما هو مطلوب في هذا الملف، ليس الهدم، ولذلك، على الدولة اللبنانية بحسب غبريل أن "تقول ماذا استفدنا اقتصادياً من شكل العلاقة السابقة مع سوريا، وأين هي الثغرات وماذا يمكن تعديله في الاتفاقيات وماذا يمكن الحفاظ عليه". وتزداد الحاجة إلى مثل هذا التقييم في ظل وقوف لبنان أمام عملية "إعادة تكوين للسلطة خلال هذه المرحلة، سواء من انتخاب لرئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة جديدة ومحاولة استعادة الثقة العربية والدولية وإعادة بناء نظام مالي ومصرفي وتجاري عالمي".
وبالتوازي، على الدولة اللبنانية أن تتّجه نحو دعم الإنتاج المحلّي وإعداد بنية تحتية جاذبة للاستثمارات وتوسيع عمل المؤسسات، وهو أمر ضروري لمواكبة عملية التغيير الحاصلة إن على صعيد العلاقة المقبلة مع النظام السوري المنتَظَر وعلى صعيد التعافي من نتائج الحرب ومعالجة نتائج الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ 5 سنوات. وهذا يعني أن التحدّي الأبرز مطلوب من الدولة تجاه الداخل اللبناني، وبالتالي "هناك مسؤولية على الدولة" بحسب ما يقوله لـ"المدن" رئيس لجنة التجارة في غرفة تجارة بيروت وجبل لبنان، القنصل جاك حكيم، الذي يشير إلى أن "الصناعيين والمزارعين والتجّار اللبنانيين ينتجون من اللحم الحيّ في قطاعات إنتاجية حافظت على وجودها في أصعب الظروف التي مرَّ بها لبنان من حرب وإفلاس وأزمة مصارف. وهؤلاء يستطيعون أن يكونوا بحالة أفضل في زمن السِلم".
وبما أن المنطقة بنظر حكيم "ذاهبة نحو استقرار وهدوء"، فإن المطلوب من الدولة "الحفاظ على علاقاتها مع سوريا لأنها المتنفّس الوحيد للبنان نحو الدول العربية. لكن مع ذلك عليها إعادة النظر بالاتفاقيات وتقييمها في ظل المتغيّرات الحاصلة وبعيداً من أي فوقية وتدخّل سوري. كما أنه يجب الأخذ بالاعتبار الحجم الجغرافي لسوريا والذي ينعكس على حجم إنتاجها الهائل، خصوصاً في الزراعة، وهو أمر مؤثّر جداً على الإنتاج اللبناني في حال بقيَت العلاقة غير متوازنة بين الطرفين". ولذلك، على لبنان أن "يضبط حدوده البرية وينتبه لموضوع التهريب".
العلاقة التعاقدية بين لبنان وسوريا ليست وليدة معاهدة الأخوّة التي ابتدعها حافظ الأسد. كما أن الاتفاق على الإعفاءات الجمركية ليس مستجداً، فهناك اتفاقية موقّعة في العام 1952 تنصّ على ذلك، لكن ما أراده الأسد الأب هو إعادة صياغة شكل جديد من العلاقة مع لبنان، يستند إلى وَهم التطوُّر والتقدُّم، فلم يحصد لبنان وسوريا سوى الخراب. وساعده على تعميق الخراب لبنانياً، سلطة أبدَعَت في فسادها حتى بعد الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005. ولذلك من الضروري إعادة تقييم كامل المرحلة السابقة باتفاقياتها وبنهج السلطة في لبنان.