الانتخابات الرئاسية: لبنان اللاساحة

كتب الدكتور فريد الخازن:

ليست المرة الأولى تتقاطع عوامل الداخل والخارج في الانتخابات الرئاسية. ففي مجتمع مفتوح ودولة غير سلطوية وانقسامات داخلية وأزمات بالجملة، للخارج نفوذ ودور. ولكن هذه المرة، خلافا لانتخابات رئاسية سابقة ولا سيما في سنوات الحرب وما بعدها، توازنات الداخل كانت فاعلة ومؤثرة. وجاءت تقاطعات الخارج لتعكس هذه التوازنات ومستجدات الأشهر الأخيرة.

خلال الشغور الرئاسي الطويل، تبدّلت الأوضاع في المحيط الإقليمي ومعها مواقف الدول المعنية: حروب غزة ولبنان، مفاوضات إيران مع أميركا والعالم، وسقوط النظام السوري. قواعد الاشتباك المعهودة تغيرت جذريا في فلسطين ولبنان وسوريا. "طوفان الأقصى" ردت عليه إسرائيل بطوفان أقصى، وجاء الرد على الإسناد الإيراني بإسناد أميركي. طرفا الإسناد سارا بالضوابط الممكنة، بينما إسرائيل التي يحكمها أقصى التطرف تجاوزت الحدود والوعود. حضرت أخيرا مصالح الدول في المنطقة وخارجها، بينما ظلت أطراف الداخل في مواقع متقابلة. وفي الوقت الضائع، ومع احتدام الميدان، تجاوزت تقاطعات الخارج الإقليمية المدوّلة التعادل السلبي في الداخل والذي لم يعد مجديا.

لم تتأخر أطراف الخارج في رصّ الصفوف واتخاذ القرار. لم يعد للسعودية مصلحة في النأي بالنفس بعد أحداث سوريا، وانتقلت واشنطن من المتابعة إلى الحسم، بعد إنجاز انتخاباتها. واقتنعت فرنسا بأن ساعة الحسم دقت والمحاولات السابقة باتت بلا جدوى. وفي لبنان، المرشح الأجدى معلن ولكن مع وقف التنفيذ. قائد الجيش، رجل حازم بحق ولا غبار عليه، على رأس مؤسسة وطنية جامعة في دولة مشلولة القرار وفي أكثر الظروف صعوبة. لأطراف الداخل مرشحون وخيارات لم تعد تصلح، والفصل بين السياسة والأمن لم يعد متاحا، خلافا لمسار العامين الماضيين قبل اشتداد العدوان، عندما طغت الحاجة إلى إيجاد حلول للأزمات الداخلية الضاغطة، علما أن مصادر  الخلل والمعالجات المطلوبة معروفة. هي مسائل تناولها الرئيس في خطاب القسم بوضوح، ومعها الملفات المرتبطة بدور الدولة في الداخل ومع الخارج.

تقاطعت أولويات الخارج مع الحاجة إلى إخراج لبنان من جمود الداخل. فالقرارات الدولية تستدعي دولة قرارها بيدها ورئيس يستعيد مكانتها. ومع التحولات الكبرى، أصبحت الحاجة ملحّة إلى دولة مألوفة، تتعامل معها الأطراف المعنية في المنطقة وخارجها، بعدما سادت في العامين الماضيين سياسة الهروب إلى الأمام بأداة اللاقرار. والمواصفات الرئاسية التي أُشبعت درسا وتمحيصا، تحولت إلى حجة باطلة. أما تسوية الداخل فلم تكن سهلة، والرئيس بري العالِم بكواليس الحلفاء والخصوم، حرص على تسجيل موقف الاعتراض وفتح الباب لتوافق يعكس الواقع.

بعد حرب السنتين 1976-1975، جاء الياس سركيس رئيسا حاملا مشروع الحل العربي - السوري. وبعد اجتياح 1982 جاء بشير الجميّل رئيسا قويا مدعوما من بعض الخارج بوجه الخارج الآخر، وكان الاغتيال سريعا تبعه انتخاب شقيقه أمين الجميّل رئيسا. لعلّ المضمر في كل ذلك أن لبنان الساحة لم يعد يجدي نفعا في ظل التحولات الكبرى. فالنزاع العربي - الإسرائيلي باتت أولوياته في الداخل، في إسرائيل وعلى أرض فلسطين، والنزاع الأميركي - الإيراني قيد التفاوض والنزاع الروسي - الأميركي في أوكرانيا قيد التصفية، بينما السعودية في زمن آخر وسوريا في اتجاهات مغايرة عمّا سبق.

باستثناء المرحلة السورية، رؤساء لبنان انطلقوا من قاعدة ثابتة ولاقى بعضهم دعم الخارج: بشاره الخوري زعيما مارونيا بوجه الزعيم الآخر إميل اده، كميل شمعون النجم الصاعد في مواجهة السياسي النافذ حميد فرنجيه، فؤاد شهاب قائد الجيش منذ الاستقلال ورمز وحدة البلاد في أزمة 1958، شارل حلو مرشح الشهابية وسليمان فرنجية مرشح الوسط المدعوم من خصوم الشهابية بوجه الياس سركيس الذي انتخب رئيسا بعد فرنجيه، وصولا إلى الرئيس معوض، الشهابي المجرّب الذي أراد هامشا من الحركة الحرة للمعالجة فأرداه الاغتيال ومعه اتفاق الطائف.

بداية واعدة مع خطاب القسم، والتحديات جمّة ما دام التلازم قائما بين الطبقة السياسية والمصالح الاقتصادية، والمتضررون متيقظون. في المرحلة الراهنة، الأولوية لوضع قطار الدولة على السكة، والامتحان الحقيقي يأتي بعد أن يسير القطار وتظهر وجهته. إلا أن وظيفة لبنان الساحة لم تعد ملائمة لأطراف الخارج كما في الماضى، وهي بالغة الكلفة لأطراف الداخل. إنها تحديات مرحلة لا تشبه سواها. والرئيس الجديد، الآتي من تجربة مضنية، ملمّ بتفاصيلها، المعلن منها والمضمر. وليكن التوفيق حليفه.