المصدر: النهار
الكاتب: اسكندر خشاشو
الأربعاء 3 كانون الاول 2025 17:12:07
لم ينتظر البابا لاوون الرابع عشر كثيرا بعد مغادرته بيروت ليعلن الموقف الأكثر وضوحا في زيارته التاريخية للبنان. فحامل رسالة الوحدة الروحية، خرج عند الوداع ليثبت حقيقة يعرفها الفاتيكان جيدا: لا حل في لبنان ما دام السلاح خارج سلطة الدولة، ولا مستقبل للبلاد من دون حوار لبناني صريح يعالج أصل النزاع لا تجلياته.
في حديث صحافي عقب مغادرته، قال البابا بوضوح إن الكرسي الرسولي "سيستمر في محاولة إقناع الأطراف في لبنان بترك السلاح والعنف والتوجه إلى الحوار"، مكررا أن البحث عن حلول "غير عنيفة ولكن أكثر فاعلية هو أمر جيد للشعب اللبناني". بهذا الموقف، بدا البابا كمن يرفع سقف الكلام إلى مستوى لم تعتده الديبلوماسية الفاتيكانية في السنوات الأخيرة، إذ كانت اللغة العامة عن السلام و"الدولة" تتقدم على أي تسمية مباشرة للمعضلة الأساسية: السلاح الموازي للدولة.
مع ذلك، لم يخفِ البابا أن زيارة لبنان لم تكن سياسية بحتة. فقد وصفها بأنها ذات بعد مسكوني مرتبط بمجمع نيقيا ولقاء البطاركة من أجل وحدة الكنيسة. لكن المفارقة أن الرجل نفسه أقرّ بأن جانبا سياسيا مهمّا أحاط بالزيارة، وأنه عقد لقاءات شخصية مع سلطات سياسية وممثلين لمجموعات مختلفة لها علاقة بصراعات داخلية ودولية، وهو ما يعني أن الفاتيكان، رغم غلافه الروحي، دخل مباشرة في عمق الملفات اللبنانية الأكثر حساسية.
ولمزيد من الوضوح، شدد البابا على أن عمل الكرسي الرسولي في هذه الملفات لا يكون علنيا، بل يتم خلف الكواليس، مؤكدا أن ما قام به وسيمضي فيه هو محاولة إقناع الأطراف بالتخلي عن السلاح والجلوس إلى طاولة الحوار. هذا الموقف يعيد التأكيد أن الفاتيكان لم يأت فقط للتشجيع والتمني، بل حمل معه ورشة اتصالات سياسية تدار بصمت، وتحاول قدر المستطاع دفع اللبنانيين نحو تسوية لا تصنع بالعنف.
وعندما سئل عن إمكان الاضطلاع بدور وساطة بين الأطراف اللبنانية، أوحى البابا بأن الكنيسة لا تمتلك عصا سحرية، لكنها تعمل على "تهدئة النزاعات الداخلية والدولية" وتشجيع منطق الحوار حيث أمكن.
اللحظة الأكثر حساسية في حديثه كانت حين أثير موضوع اللقاء مع ممثل الطائفة الشيعية والرسالة التي وجهها إليه "حزب الله". كان رده مختصرا لكنه بالغ الدلالة: "نعم، لقد اطلعت على رسالة حزب الله… وأفضّل عدم التعليق". ثم أضاف: "من الواضح أن هناك اقتراحا من جانب الكنيسة أن يتركوا السلاح ويسعوا إلى الحوار".
هذا الصمت لم يكن تهربا، بل رسالة. فالفاتيكان استمع إلى الحزب وفهم موقفه، لكنه لم يمنحه شرعية، ولم يبادل الرسالة بموقف يساوي بين الطرفين. الامتناع عن التعليق هنا يعني ببساطة أن مبررات الحزب لتمسكه بسلاحه لم تقنع رأس الكنيسة، وأن الفاتيكان متمسك بموقفه: لا يمكن دولة أن تنهض بوجود سلاح خارج مؤسساتها.
أما رسالة "حزب الله" غير المعلنة فكانت على الضفة الأخرى واضحة: السلاح ليس موضوعا للتفاوض الأخلاقي أو الروحي، بل هو جزء من معادلة صراع إقليمية ودفاعية لا يملك الحزب خيار التخلي عنها. وقد أراد الحزب، عبر هذه الإشارة، أن يقول للبابا إنه يسمع دعوته لكنه غير معني بها قبل توافر ظروف سياسية شاملة تغير المعادلات القائمة.
هكذا، خرج البابا من لبنان وقد رسم معادلة دقيقة: الفاتيكان سيواصل السعي إلى إخماد النزاعات وتشجيع الحوار، لكنه سيرفع في الوقت نفسه الصوت ضد استخدام السلاح، ويدعو إلى حلول غير عنيفة تعيد إلى الدولة وحدانيتها.
وفي المقابل، بدا "حزب الله" مصرا على فصل الملف الداخلي عن أي ضغط خارجي، معتبرا أن سلاحه ليس بندا يمكن أن يفتح بمجرد صدور مواقف دولية أو روحية.
واقعه المعقد، دولة معلقة بين ما يريده المجتمع الدولي وما تفرضه موازين القوى الداخلية، وكنيسة ترى أن مستقبل البلاد لا يصنعه إلا الحوار، ولا يكتمل إلا بعودة الدولة إلى احتكارها الشرعي للقوة.