المصدر: النهار
الجمعة 21 حزيران 2024 14:09:42
يُقدر الإنتاج اللبناني من فاكهة الكرز بـ40 ألف طن، وهو من أجود الأنواع، وفقاً لشهادة مؤسسات بحثية زراعية عدّة. وترى وزارة الزراعة اللبنانية أن شجرة الكرز مزروعة في مساحات تزيد عن 4784 هكتاراً من الأراضي في الجبال اللبنانية التي ترتفع أكثر من 1000 متر عن سطح البحر، ويعتمد على مردود إنتاجها مئات العائلات اللبنانية، وهي لا تحتاج إلى الكثير من العناية كالريّ والرّش كما في الأنواع الأخرى من الأشجار المثمرة، وموسمها يأتي قبل بداية الصيف، إذ تُجنى ثمارها سريعاً، وينصرف المزارعون الى الاهتمام بأشغال أخرى بعد الانتهاء من قطاف الموسم خلال شهر حزيران (يونيو) من كلّ عام.
ضُرب القسم الأكبر من موسم الكرز هذا العام على المرتفعات اللبنانية، ولم يتمكّن المالكون من جني المحصول إلا ما كان أينع خلال العشرة أيّام الأولى من الشهر. وبعد "شلهوبة" 10 – 16 حزيران (يونيو)، حين ارتفعت الحرارة في الجبال إلى ما يزيد عن 33 درجة على غير عادتها في مثل هذا الوقت من السنة؛ ظهر على ثمار الكرز في معظم المناطق "الدودة" في داخل الثمرة، فجعلت الثمار غير صالحة للاستهلاك. وعبثاً حاول المزارعون المحترفون الذين يعتمدون على غلال هذه الفاكهة إنقاذها بالرّش بموادّ نَصح بها مهندسون أو ذوو خبرة، فإن أيّاً من هذه المعالجات لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، وحرارة الجوّ التي لا تتحمّلها ثمار الكرز اليانعة كانت أقوى من كلّ المعالجات.
عشرات الأطنان من الكرز بقيت على الشجر، وامتنع أصحابها عن قطافها، لأنها لم تعُد صالحة، وهي سببت مشكلاً في البساتين التي تحتوي على أشجار فاكهة أخرى كالمشمش والتفاح وغيرها، لأن عدوى "الدودة" قد تنتقل إلى ثمار هذه الأشجار أيضاً؛ والمزارعون يخافون من عقم المعالجات بوساطة رشّ المبيدات، لأنّها غير نافعة أو لأنها مغشوشة، وعلى العبوات التي تحتويها تواريخ صلاحية غير صحيحة؛ وهو ما يحصل على الدوام من جراء الفوضى الكبيرة التي يعيشها سوق تجارة المواد الزراعية؛ فبعض هذه المواد مهرَّب من سوريا، ولا تنطبق عليه مواصفات الجودة؛ والبعض الآخر يدخل إلى الأسواق بمعايير غير مطابقة، وبعض المبيدات أو الأسمدة ذات الجودة العالية مرتفعة الثمن إلى حدٍّ لا يستطيع المزارع دفع أكلافها من غلاله.
المرتفعات اللبنانية مثالية لزراعة الكرز. وقد دخلت الفاكهة إلى السوق بقوة، وهي مرغوبة ونافعة، وفقاً لما تشير إليه مختبرات التغذية، حيث تقول الدراسات إنها تفيد في توسيع الأوعية الدموية، ومحاربة البقايا السرطانية في الجسم، وفي خفض ضغط الدم وتوليف التوازن في السكر ودرّ البول. والكرز يفيد أيضاً في تأدية وظائف الرأس والدماغ وفق ما تقول هذه الدراسات، ويساعد في تأخير الشيخوخة والحدّ من ظهور التجاعيد باكراً.
تقول الإحصاءات المنشورة إن 90 في المئة من إنتاج الكرز في لبنان يُستهلك في الأسواق الداخلية، بالرغم من أن نوعية الكرز اللبناني جيدة جداً، وهي مرغوبة للتصدير. وباستثناء سوريا، فإن الدول العربية المحيطة بلبنان لا تنتج كميات كبيرة من الكرز، حيث لا توجد جبال مرتفعة في هذه الدول صالحة لزراعة هذه الشجرة، التي تُعرف بأنها لا تحبّ الحرّ، بل تحتاج إلى برودة، وتتحمل العيش على درجات حرارة متدنية، تصل إلى 12 درجة تحت الصفر، على خلاف الأشجار المثمرة الأخرى التي ترتاح للدفء بأغلبها.
يقول مزارعون معمّرون في إحدى قرى جبل لبنان المرتفعة، حيث كثرت زراعة الكرز فيها في السنوات العشرين الأخيرة، إنه لم يسبق لهم أن لاحظوا هذا التلف المُبكر لثمرة الكرز في مثل هذا التوقيت في السنوات الماضية، وكانوا يجنون الموسم طوال شهر حزيران (يونيو) من دون وجود مثل هذا الانتشار للدودة في ثمرة الكرز إلا نادراً، أو في الثمرة التي تبقى على الشجرة بعد انقضاء شهر حزيران. كذلك، فإن مزارعين آخرين لاحظوا أن الرش بالمبيدات، التي كانوا يعتقدون أنّها تحارب الدودة، لم ينفع على الإطلاق هذا العام؛ وبالرغم من المكافحة بالمبيدات فإنهم لم يحصلوا على نتيجة إيجابية، وكانت مواسم بساتينهم المرشوشة تشبه مواسم البساتين التي لم يتمّ رشها بالمبيدات، إذ غزت الدودة أغلب فاكهتهم بعد 10 حزيران (يونيو) هذا العام.
من الواضح استناداً إلى المعطيات المتوافرة، كما من معايشة موجة الحرّ، التي حصلت في منتصف شهر حزيران (يونيو)، أن تغييرات مناخية مهمة حصلت، وأن درجة الحرارة ترافقت مع رطوبة عالية لم يسبق أن وصلت إلى هذا الحدّ في مثل هذا العام على المرتفعات، التي تزيد عن 1200 متر. والخوف يتزايد عند المزارعين على مواسمهم الأخرى، لا سيّما التفاح، وربما الزيتون والعنب، إذ بدا الذبول باكراً على أوراق هذه الأشجار، وقبل أن يبدأ موسم الريّ، كما أنهم لا يملكون كميّات وافية من مياه الرّي تستطيع سدّ حاجة هذه الأشجار التي تعيش بعلية بمعظمها.
المسؤولون في لبنان وفي الدول المعنية مطالبون بالتبصُّر لمواجهة موجات التصحُّر الجبليّة غير المعتادة، حيث يبدو أن التغييرات المناخيّة أصبحت واقعاً معاشاً.