الجفاف يعصف بأشجار الصنوبر التاريخية في لبنان

غابة بكاسين (لبنان) 11 نوفمبر تشرين الثاني (رويترز) - في قلب جنوب لبنان تتكشف على مهل أزمة جفاف مخاريط الصنوبر وموت أشجارها التي كانت ذات يوم شامخة وفيرة الثمار في غابة مثلت شريان حياة لمجتمعات بأكملها.


وعلى مدى سنوات تضاءل إنتاج مزارعي غابة بكاسين من الصنوبر. وعزا المزارعون ذلك في بادئ الأمر إلى تقلبات الطقس الموسمية لكن في عام 2015 تأكد علماء مما كان يخشاه كثيرون؛ إذ تفشت في الغابة حشرة تتغذى على المخاريط التي تنتج الصنوبر اللبناني الثمين.

وقال نبيل نمر خبير صحة الغابات في جامعة الروح القدس - الكسليك إن الأمر لا يقتصر على حبوب الصنوبر. إذ أن الحشرة تهاجم المخاريط على مدار ثلاث سنوات، ولا تقلل من الإنتاجية فحسب، بل تقضي عليها تماما.

وأضاف نمر أنه في بعض الحالات يصبح ما يصل إلى 82 بالمئة من قرون بذور المخروط قشورا فارغة. وتصبح الأشجار أيضا، التي أضعفتها تداعيات تغير المناخ، معرضة للخطر بشكل خاص.
وأوضح نمر أن أصل الحشرة التي تسمى (ليبتوجلوسوس) من أمريكا الوسطى وأن من المرجح أنها وصلت إلى لبنان عبر منصات شحن خشبية غير معالجة.


ووفقا لأبحاث نمر، انتشرت هذه الحشرة بعدها عبر البحر المتوسط إلى تركيا ومناطق أخرى.
وصارت سبل العيش مهددة في محمية بكاسين، أكبر غابة صنوبر منتجة في الشرق الأوسط. وتنمو أشجار الصنوبر في مناطق أخرى من لبنان لكن ليس لأغراض تجارية على الأغلب.
وعلى مدى عقود عاشت عائلة ميلاد حرب على خيرات هذه الغابة، لكن الوضع تغير الآن.

وقال حرب لرويترز إنه ورث الحرفة وبنى من مكاسبه منزلا ووفر المعيشة لأسرته. لكن الأشجار بدأت تموت، ومعها أسلوب الحياة الذي اعتاده.
وحصاد مخاريط الصنوبر عمل شاق إذ يتسلق العمال أشجارا شاهقة لجمع المخاريط العالقة في أعاليها مستخدمين سلالم ضيقة ويحافظون على توازنهم فوق أغصان رفيعة دون توافر معدات الأمان اللازمة لهذه المهمة.
وتعد إصابات جامعي المخاريط شائعة فيما تضاءلت أجورهم مع انخفاض المحصول. وقال نبيل أسد، وهو عامل سوري يعمل في حصاد الصنوبر في لبنان منذ ما يزيد على 10 سنوات إنه لا يزال يتذكر عندما كان ما يصل إلى 250 جامع صنوبر يعملون في آن واحد في غابة بكاسين.


وأضاف "هلا... يشتغل عشرين ثلاثين واحد، لأنه خف في الموسم. ما في موسم صنوبر! الكرز ما عم يسوى".


* تدهور النظام البيئي
زُرعت معظم غابات الصنوبر في لبنان في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. ولا تزال هذه الأشجار القديمة في أعمارها الإنتاجية، إلا أن الجفاف وعدم انتظام هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة الناجم عن تغير المناخ جعلها أكثر عرضة للآفات.

وقال نمر إن الشجرة السليمة قادرة على المقاومة، لكن عندما تعاني من قلة المياه والتغذية لا تملك أي قدرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة الآفات.


وقبيل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب30)في بيليم بالبرازيل هذا الشهر، أكد مسؤولون من الأمم المتحدة أهمية حماية الغابات من الإصابة بالآفات وغيرها من المخاطر، ووصفوا الغابات بأنها "أقوى (منظومة) دفاع طبيعية على وجه الأرض".
وتضم غابة بكاسين نحو 100 ألف شجرة صنوبر مثمرة لكن وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة تزداد أعداد الأشجار التي تموت بهذه الغابة أو تصبح غير مثمرة بسبب الآفات والضغوط المناخية.
وفضلا عن الحشرة آكلة المخاريط، تُلحق أيضا الخنافس الثاقبة للخشب ضررا شديدا بأشجار الصنوبر. وتنتشر الأشجار الميتة على أرض الغابة، مما يجذب المزيد من الآفات ويسرّع من تدهورها.


وتأثر الوضع أيضا بالاضطرابات السياسية والاقتصادية في لبنان المستمرة منذ عقود؛ فبعد الحرب الأهلية الطاحنة التي شهدتها البلاد بين عامي 1975 و1990 لم تعد هناك إدارة حكومية قادرة على الاعتناء بالغابات.
ومنذ الأزمة الاقتصادية التي حلت في عام 2019 زادت أيضا عمليات قطع الأشجار غير القانونية.


ومع انخفاض الإنتاجية، ارتفعت أسعار الصنوبر في الأسواق ولم يعد سوى قلة من اللبنانيين قادرين على شرائه. ووصل سعر بيع كيلوجرام واحد من حبوب الصنوبر الآن إلى نحو 100 دولار بعد أن كان 65 دولارا تقريبا قبل خمس سنوات. واستبدلت الأسر، بل والمطاعم، الصنوبر بشرائح اللوز الأرخص ثمنا في الأطباق اللبنانية التي تتطلب وجود شيء مقرمش.


وتتباطأ جهود مكافحة الآفات. ويتطلب رش المبيدات طائرات هليكوبتر، وهي تقع تحت سيطرة الجيش اللبناني. وفي كثير من الأحيان تؤدي تأخيرات لوجستية إلى تفويت فرص المعالجة التي تكون خلال الفترة التي تضع فيها الحشرات بيضها.
ومن المقرر إطلاق حملة رش وطنية في الفترة من مايو أيار إلى أكتوبر تشرين الأول 2026. لكن نمر حذر من أنه بدون استراتيجية أوسع نطاقا تشمل المزارعين أنفسهم، فلن تكون هذه الحملة كافية.


ويتعلم المزارعون في بكاسين كيفية رصد الآفات والإبلاغ عن تفشيها والمشاركة في إدارة الغابات من خلال برامج تدريبية تقودها جامعة الروح القدس-كسليك ووزارة الزراعة اللبنانية ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وأشار نمر إلى أن الأمر يتطلب معاملة خاصة، وقال "اليوم الحرش بده معاملة خاصة صار ما نعمله كبستان أكتر ما هو كحرش".