"الجليل مقابل بيروت"... اليد الإسرائيلية مطلَقة ودفع بلبنان نحو التفاوض السياسي

"إذا لم يخيّم الهدوء في بلدات الجليل، لن يكون هناك هدوء في بيروت. وحكم كريات شمونة هو حكم بيروت"... بهذه المعادلة أطلق وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس تحذيره للبنان، وما هي إلا ساعات حتى نفّذ تهديده، مستهدفًا العاصمة اللبنانية للمرة الأولى منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

يشهد لبنان تدهورًا مقلقًا للإتفاق وسط ظروف غامضة، ورسائل غير واضحة تكرّرت مرتين خلال أسبوع، حيث أُطلقت صواريخ من جنوب لبنان، عبر منصّات بدائية، ومن دون أن تتبناها أي جهة لا بل مسارعة حزب الله إلى نفي أي مسؤولية له عنها.

العين على الدولة

بينما كان الرئيس اللبناني جوزاف عون يعقد اجتماعًا ثنائيًا مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، تحذيرًا لسكان أحد الأبنية في منطقة الحدث بالضاحية الجنوبية لبيروت، تبعته سلسلة غارات كادت أن تتسبب في مجزرة بمنطقة مكتظة بالسكان والمدارس.

ويحمل هذا التزامن رسالة واضحة بضرب الجهود الدولية الرامية إلى تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار عرض الحائط، وعلى رأسها المساعي الفرنسية، باعتبارها ممثلًا أساسيًا في اللجنة الخماسية المكلفة بمراقبة تنفيذ القرار 1701.

وأما الأهم في هذه المفارقة الزمنية بين الغارات ولقاء باريس، إيصال رسالة واضحة للدولة اللبنانية، وممارسة المزيد من الضغط عليها لفرض سيطرتها الكاملة على جنوب وشمال الليطاني، وتجريد حزب الله من سلاحه.

وكان لافتًا حرص نائبة المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، التي ستزور بيروت الأسبوع المقبل، الخروج بسلسلة تصريحات على أثر التصعيد الأخير، مبرّرة لتل أبيب وملقية باللوم على لبنان الرسمي.

واعتبرت أن "على الحكومة اللبنانية التخلّص من الجماعات التي أطلقت صواريخ على إسرائيل"، معلنة أن "إسرائيل لديها الحق في الرد على الصواريخ التي أطلقت من لبنان".

وبصراحة، قالت أورتاغوس: "لا يمكن القول إن إسرائيل تنتهك اتفاق وقف النار مع لبنان، بل عليه تحمل مسؤولياته بدلًا من إلقاء اللوم على إسرائيل".

لجان مدنية لا عسكرية

يبدو توقيت التصعيد الحدودي مستغربًا بعد حوالى الأسبوعين فقط على وساطة أميركية فرنسية أدت إلى إطلاق 5 أسرى لبنانيين، والإتفاق على تشكيل 3 لجان مهمتها معالجة مشكلة النقاط المحتلة في جنوب لبنان، متابعة ملف ترسيم الحدود البرية ومسألة الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل.

وافق لبنان على هذه اللجان على أن يكون أعضاؤها من العسكريين، كما فعل خلال مفاوضات الترسيم الحدود البحرية بوساطة أميركية، والتي أفضت إلى اتفاق قبل انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في العام 2022.

هذه الصيغة لا يبدو أنها ترضي الأميركيين والإسرائيليين، في ظل ضغوط على لبنان لتحويل مجموعات العمل هذه إلى لجان مدنية لا عسكرية. حيث أشارت أورتاغوس إلى أنه "حان الوقت للدبلوماسية بين إسرائيل ولبنان"، مع ما يعنيه هذا الكلام من دفع نحو مفاوضات سياسية تكون مقدمة للتطبيع.

وهو ما لم يستبعده المبعوث الخاص ستيفن ويتكوف، إذ أعرب قبل أيام عن اعتقاده بأن "لبنان قد يطبّع علاقاته مع إسرائيل من خلال إبرام معاهدة سلام بين البلدين"، مؤكداً أن 'ذلك ممكن حقًا، وينطبق الأمر نفسه على سوريا"، مضيفًا أن "إسرائيل تتحرك داخل لبنان وسوريا، ورغم أن هاتين الدولتين ليستا جزءًا من إسرائيل، إلا أنها تسيطر عليهما ميدانيًا، وهذه السيطرة تفتح الباب أمام تطبيع شامل في حال تم القضاء على الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران"، مؤكدًا أنه إذا "طبّعت سوريا ولبنان العلاقات مع إسرائيل، ووقعت السعودية اتفاقية سلام في حال تحقق الهدوء في غزة، فسنكون أمام مشهد جديد بالكامل في الشرق الأوسط".

الكباش الأميركي الإيراني

يأتي التصعيد الأخير على الساحة اللبنانية وسط كباش محتدم بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وتهديد ترامب الواضح لطهران بأنه "ستحصل أشياء سيئة لإيران إذا لم نتوصل إلى اتفاق معها".

ورغم تراجع السطوة الإيرانية على لبنان بشكل كبير منذ الحرب الأخيرة على حزب الله، وبعد سقوط نظام الأسد، إلا أن الترتيبات النهائية للوضع في لبنان لم تُنجَز بعد. وبالتالي لا يمكن مقاربة المشهد اللبناني بشكل منفصل عن المشهد الإقليمي الأوسع وما ستؤول إليه المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، ومدى التجاوب الإيراني مع رسالة ترامب عبر سلطة عُمان.

مَن أطلق الصواريخ؟

أمام هذا المشهد، وفيما لا يزال الصراع في لبنان يتقاسمه طرفان فقط هما إسرائيل وحزب الله، فإن السؤال يبقى مشروعًا بعد الأحداث الأخيرة، مَن أطلق الصواريخ؟ وهل من طرف ثالث أصلاً؟

يعتبر الكاتب السياسي علي الأمين، ابن الجنوب اللبناني، في حديث لـ"الترا صوت"، أنه "من الصعب الإقتناع بأن هناك مجموعة ما غير معروفة أو سرية ذهبت لإطلاقها من منطقة كفرتبنيت في المرة الأولى وقعقعية الجسر في المرة الثانية، وهي مناطق معروفة، إضافة إلى خضوعها لسلطة حزب الله، بوضعيتها الأمنية خصوصًا أنها تقع في منطقة شمال الليطاني، والتي أصبحت بمثابة خط انسحاب "الحزب".

ويضيف الأمين: "يبدو أن هذه المجموعة حريصة على إطلاق الصواريخ من شمال الليطاني، لا بل من حدود نهر الليطاني تمامًا لجهة الشمال. ما يشير الى أنه من السهل كشف مَن يطلق الصواريخ والامر ليس صعبًا، إن كان من قِبل حزب الله أو الدولة اللبنانية".

وفيما يستبعد أن يكون مطلقي الصواريخ مجهولي الهوية، يلفت إلى أن "مطلقها يبعث برسالة غير مفهومة سوى بإطار خلق نوع من ردع بوجه إسرائيل المستمرة بعمليات الإغتيال والاستهدافات"، مستطردًا "أميل إلى القول أنه اذا لم تكن عملية منظمة تمامًا من قبل حزب الله، لكن ربما هناك مجموعة ما تحاول أن تقول "نحن موجودون". فالبنية العسكرية لحزب الله تدرك أنه عندما يفقد ميزته العسكرية والأمنية ينتهي".

ويتوقف الأمين عند رمزية توقيت إطلاق الصواريخ، ومصادفتها في يوم القدس، الذي كان مناسبة ثابتة لدى الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله، والتي كان يخطب فيها على مدى 3 عقود.

التفاوض السياسي

أما الصورة من الجانب الإسرائيلي، فهي أكبر وأوسع وأخطر، في ظل تمتعه بحرية الحركة العسكرية منذ 3 أشهر وبالغطاء الأميركي بحجة "الدفاع عن النفس"، وفي ظل بحث بنيامين نتنياهو الدائم عن مبررات لاستكمال حربه.

وحول هذا الواقع، يقول الأمين: "إسرائيل اليوم مطلَقة اليد في الجنوب وتنفذ عمليات اغتيال وتستهدف سيارات ومراكز من دون أي رد فعلي ومؤذ من قِبل حزب الله، ومن دون أي موقف من اللجنة الخماسية التي يُفترض أنها تراقب تنفيذ القرار 1701".

وعليه، يضيف "يبدو أن اسرائيل تريد أن تبقي الملف مفتوحًا إلى حين إنجاز اتفاق يناسبها بشكل كامل، كالذي يُطرَح حول ضرورة أن يكون هناك تفاوضًا سياسيًا بين لبنان واسرائيل. ربما هذا هدف إسرائيلي تريد الوصول إليه، ولكن إسرائيل تتحرك اليوم بحرية تامة من جهة سوريا ومن جهة لبنان ولا تريد لهذا الملف أن يُغلَق، لذلك هي دائمًا تحاول أن تجد أي خلل لتستثمره من أجل إبقاء الوضع على ما هو عليه، ولا تريد أن تصل إلى اتفافات نهائية والبقاء مطلَقة اليد".

كل يوم شهيد

كشفت شهرية "الدولية للمعلومات" أن حصيلة الشهداء منذ وقف إطلاق النار في لبنان في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 وحتى 23 آذار/مارس 2025 بلغت 99 شهيدًا و298 جريحًا، أي بمعدّل شهيد في كل يوم.

أرقام تؤكد أن إسرائيل لم تلتزم بوقف إطلاق النار منذ اللحظة الاولى، ومستمرة في مخطتها لفرض واقع جديد وربما خرائط جديدة، ما يجعل الحرب خيارًا محتملًا في أي لحظة، وعدم استبعاد توسّعها إذا ما كانت إسرائيل تريد فعلًا دفع لبنان إلى نزع سلاح حزب الله بالكامل في شمال اللبطاني أيضًا، وجرّه إلى تفاوض مباشر تحت النار.