المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الاثنين 4 آب 2025 02:19:30
خمسة أعوام مرّت على الرابع من آب، يوم تحوّلت بيروت إلى رماد.
انفجار ضرب قلب العاصمة، فقتل أكثر من مئتي إنسان، جرح الآلاف، ومسح أحياء بأكملها عن وجه المدينة.
ذلك اليوم لم يكن مجرّد كارثة، بل لحظة تشظّت فيها الثقة، وانفجرت فيها الدولة.
ومع حلول الذكرى الخامسة، تمرّ في الجميزة ومار مخايل، فتظنّ أنك في مدينة أخرى.
المباني مشذّبة، الأرصفة أنيقة، الحانات مزدحمة، والزوايا التي سقط فيها الغبار والدم والصرخات، صارت خلفية لصور. كأن لا شيء حدث. أو كأن كلّ شيء أُعيد رسمه... كي لا يتذكّر أحد
ترميم سريع... وذاكرة أبطأ
من الناحية العمرانية، كان ما جرى في مار مخايل والجميزة أشبه بـ"معجزة هندسية".
فبفضل مساهمة مئات المتطوّعين من طلاب الهندسة، ومهندسين مستقلين، ومكاتب تصميم دولية، إضافة إلى تمويل من منظمات غير حكومية ومتبرّعين لبنانيين ومغتربين، ودول صديقة، أُعيد ترميم الواجهات والمباني المتضرّرة بوتيرة استثنائية. وشمل الدعم أيضًا المدارس، والمباني التراثية، والمتاحف، والمعارض، والصناعات الإبداعية التي لحقت بها أضرار جسيمة.
لكن، في مقابل هذه الإشادة بجهود الترميم، يرى كثيرون أن التحوّل العمراني رافقته تغييرات اجتماعية عميقة وغير معلَنة، بدأت ترسم ملامح حيّ جديد يختلف جذريًا عن سابقه.
فالتحوّل في هوية مار مخايل والجميزة لا يقتصر على الشكل العمراني أو التبدّل السكّاني، بل يطال الذاكرة الجماعية والروابط الحيّة التي كانت تربط الناس بالمكان.
بشرى صعب، التي وُلدت وعاشت أكثر من ثلاثين عامًا في الجميزة، أصيبت في الانفجار وغادرت إلى ألمانيا للعلاج. عادت إلى بيروت بعد عام تقريبًا، لكنها لم تجد الحيّ كما تركته. تقول: "حين عدت إلى هنا للمرة الأولى بعد الانفجار، شعرت أن شيئًا ما ليس في مكانه. كان أثر الانفجار لا يزال حاضرًا... لكن لاحقًا، بدأت أشعر وكأنني لم أنشأ هنا، وكأنني لا أعرف هذا المكان. كل شيء بدا مُعدًا لإنكار أن كارثة قد وقعت. كأن البعض استغلّ رحيل الناس ليعيد تشكيل الحيّ بالكامل بما يناسب السياح والأجانب".
وتضحك قبل أن تضيف: "حتى كنيسة سيّدة البزّاز، التي لم يكن يعرفها إلا أهل الحي، أصبحت اليوم معلمًا سياحيًا!".
ما تقوله بشرى لا يُختصر في الحنين، بل يعكس واقعًا تغيّرت فيه وظائف المكان.
فالحياة التي عادت إلى مار مخايل والجميزة، بحسب شهادات متعددة، ليست استمرارًا لما كان قبل الانفجار، بل نمط جديد أُعيد تصميمه، أزاح سكّانًا أصليين واستبدلهم بزائرين مؤقّتين، وجمهور استهلاكي عابر.
حياة جديدة... بوجه واحد
فبينما تُسوّق بيروت على أنها مدينة تنتصر على مآسيها، وتنهض من تحت الرماد، تكشف الأرقام عن تحوّلات أعمق في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة.
فما قبل الرابع من آب، كانت الجميزة ومار مخايل تضمان أكثر من 200 مؤسسة سياحية، من مقاهٍ وحانات ومطاعم. اليوم، نحو 130 مؤسسة موجودة في المنطقة، فتحت بعد الانفجار.
قسم كبير أقفل نهائيًا، إمّا بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت بالمباني، أو لعدم قدرة أصحابها على تحمّل تكاليف إعادة الإعمار. بعضها الآخر أعيد افتتاحه، لكن بأسماء مختلفة.
منى اسطفان، التي وُلدت وتعيش في الجميزة منذ أكثر من خمسين عامًا، تصف التبدّل السكاني الحاصل بمرارة: "الجيران ماتوا أو هاجروا. الشوارع بعدها هييّ، بس الوجوه تغيّرت. في ناس رجعت، وناس هجّت".
اليوم، تستعيد مار مخايل والجميزة دورهما كمقصد ليلي وسياحي أساسي في بيروت، لكن بروح مختلفة.واجهات المحال والمكاتب والمقاهي صُمّمت بذوق عصري موحَّد، يغلب عليه الطابع الأوروبي.
بيروت تمشي... لكنها لا تتذكّر
في الظاهر، تبدو بيروت مدينة اعتادت النهوض من تحت الركام. ففي ظل غياب أي محاسبة لانفجار الرابع من آب، وتحلل الدولة من مسؤولياتها، بدا أن ورشة الترميم الكبرى لم تكن سوى محاولة للهروب إلى الأمام، لمحو آثار الجريمة.
تقول منى اسطفان، وهي تنظر إلى واجهة بناية قديمة لم تُرمَّم بالكامل: "في مباني بعدها مسكّرة، شرفات خالية، وأسماء ناس ما عاد حدا يذكرهم".
وهكذا، يبقى الانفجار حدثًا لم يُطوَ بعد، بل يتكرّر بصمت، في كل مرّة يشعر فيها أحدهم أنه صار غريبًا في حيّه، أو حين تمرّ الذاكرة من أمام جدار جديد يخفي وراءه صدعًا لم يُلتئم.