الجيش اللبناني على خطّي النار الأمني.. والسياسي

في خضم المشهد السياسي المأزوم، قدّم قائد الجيش، العماد رودولف هيكل، تقريره الأوّل حول خطة الجيش لحصر السلاح أمام مجلس الوزراء، في خطوة رسمت حولها العديد من السيناريوهات. صحيح أن قطوع عرض قائد الجيش للتقرير مر بهدوء، ومعه تجاوز مجلس الوزراء قطوع التفجير، خصوصاً أن التقرير الأول للجيش صيغ بأسلوب "أتقنَ باحتراف الموازنة بين عرض الوقائع وما تحقق، وبين السير بين المطبات والألغام التي هو بغنى عنها ولا علاقة للمؤسسة العسكرية بها"، بحسب ما أوضح مطلعون لـ"المدن". فالتقرير الذي أعدّته قيادة الجيش لم يكن مجرّد جردة ميدانية لمناطق انتشار السلاح، بل وثيقة أولى على طريق إعادة الاعتبار لهيبة الدولة عبر حصر مصادر القوة بيدها، من دون الانجرار إلى أيّ مواجهة داخلية.

هذه الخطوة، على رمزيتها، كشفت عمق التحديات الصعبة والشائكة التي تواجهها المؤسسة العسكرية: كيف يمكن لجيشٍ أنهكته الأزمات أن يعمل على حصر السلاح الخارج عن الشرعية، وتحديدا نزعه من حزب الله، أن يحمي الحدود، ويكافح الإرهاب والمخدرات، ويحفظ الاستقرار الداخلي، من دون أن يتحوّل إلى طرفٍ في لعبة الانقسام السياسي؟

 حصر السلاح بواقعية عسكرية

تقوم خطة الجيش لحصر السلاح على مبدأين أساسيين: الواقعية الأمنية وتجنّب الصدام الأهلي. فالقيادة العسكرية، التي تدرك تعقيدات المشهد اللبناني، تبني مقاربتها على أنّ أيّ محاولة لنزع السلاح بالقوة ستؤدي إلى تفجير داخلي لا يحتمله البلد. لذلك، تنطلق الخطة من قراءة واقعية لموازين القوى، ومن إدراك عميق أنّ الحلّ الأمني لا يمكن أن يسبق الحلّ السياسي.

في عرض للتقرير الأول أمام مجلس الوزراء، كان واضحاً أنّ الجيش لن ينخرط في أي مواجهة مع مكوّن لبناني، وأنّ مهمّته تقتصر على ضبط أو تسلم السلاح وحماية الاستقرار العام. وقد لقي هذا الموقف تفهّماً من أغلب القوى السياسية، باعتباره يعكس حرص المؤسسة العسكرية على البقاء في موقع الحياد بين الأطراف، وعدم التحوّل إلى طرف في الصراع الداخلي.

لذا تتمحور الخطة بمراحلها الأولى وبشكل متواز، إضافة إلى المهام التي نفذها ولا يزال جنوب الليطاني، لناحية تفكيك القدرات العسكرية لحزب الله، حول معالجة السلاح المنتشر في الشوارع والأحياء، وضبط مصادر التسلّح الفردي والجماعي، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الأخرى. كما ملاحقة المجموعات الخارجة عن القانون والشبكات التي تتاجر بالسلاح، في إطار عمل أمني دقيق يتطلّب تنسيقاً قضائياً وسياسياً واسعاً. ويحرص الجيش على تنفيذ هذه العمليات بعيداً عن التجاذب السياسي، وتفادياً لأيّ إستغلال أو تأويل لخطواته في بيئة الانقسام الوطني الحاد.

الحدود السورية: التحدّي الدائم

يُضاف إلى هذه التحديات الملف الأكثر حساسية: ضبط الحدود مع سوريا. فالمعابر الشرعية وغير الشرعية الممتدّة على 375 كيلومتراً تشكّل مصدر استنزاف أمني واقتصادي هائل، سواء عبر التهريب أو تسلّل المطلوبين. ومع تغيّر الإدارة السورية وتبدّل طبيعة التنسيق الأمني، يجد الجيش نفسه أمام اختبار مزدوج:

من جهة، ضرورة تعزيز التعاون الميداني مع الجانب السوري لمنع تسلّل الجماعات الإرهابية وضبط حركة التهريب.

ومن جهة أخرى، الحرص على عدم السماح لأي طرف الانزلاق إلى أيّ شبهة سياسية يمكن أن تُفسّر كخروج عن سياسة النأي بالنفس أو الاصطفاف مع محور إقليمي.

لقد تمكّن الجيش، رغم محدودية الإمكانات، من إقامة أبراج مراقبة بدعم بريطاني، ونقاط مراقبة متقدّمة وإستخدام تقنيات جديدة لضبط المعابر، لكنّ المسألة تتجاوز الجانب التقني لتطال القرار السياسي ومدى إستعداد الدولة لتغطية هذا الجهد.

الإرهاب والمخدرات

رغم إنحسار العمليات الواسعة، لا يزال التهديد الإرهابي قائماً، خصوصاً في المناطق الحدودية والشمال والبقاع. وقد واصل الجيش عمليات إستباقية دقيقة ضدّ خلايا نائمة مرتبطة بتنظيمات متطرّفة، مانعاً عودة المشهد الدموي الذي شهدته البلاد قبل سنوات.

تعمل مديرية المخابرات ووحدات النخبة على جمع المعلومات وضرب الشبكات قبل تحرّكها، في إطار استراتيجية الأمن الوقائي التي أثبتت نجاحها، وإن بعيداً من الأضواء. هذه الحرب الصامتة تشكّل خطّ الدفاع الأول عن الاستقرار، وتُظهر أنّ المؤسسة العسكرية لا تزال قادرة على الإمساك بالأمن الوطني رغم الانهيار العام في مؤسسات الدولة.

هذا ولا تقلّ حرب الجيش على كارتلات المخدرات خطورة عن معاركه الأمنية. فشبكات تصنيع وتهريب الكبتاغون والحشيشة تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى تهديد مباشر لعلاقة لبنان بمحيطه العربي، بعدما أصبحت بعض دول الخليج وجهة رئيسية لهذه السموم.

وقد كثّف الجيش عملياته في البقاع والشمال، ملاحقاً مصانع ومخازن وتجاراً يتمتعون أحياناً بحماية سياسية أو عشائرية. هذه الحرب ليست تقنية فحسب، بل هي معركة سيادة تسعى من خلالها الدولة إلى إثبات قدرتها على ضبط أراضيها ومنع تحويلها منصة إجرامية تُسيء إلى صورة لبنان ودوره العربي.

لكنّ هذه المواجهة مكلفة بشرياً وسياسياً، إذ تتطلّب تغطية وطنية كاملة ترفع الغطاء عن المتورطين وتوفّر الدعم اللوجستي المستمر للوحدات الميدانية.

بين الحاجة والاستقلال

يعرف الجيش اللبناني أنّ صموده في السنوات الأخيرة ما كان ممكناً لولا الدعم الخارجي الذي تلقّاه من دول صديقة، في مقدّمها الولايات المتحدة وفرنسا وقطر والاتحاد الأوروبي. فالمساعدات التي وُضعت بتصرّف المؤسسة العسكرية، من رواتب بالدولار ومؤن غذائية ومعدات لوجستية وقطع غيار، لم تكن مجرد هبات ظرفية، بل شكّلت شبكة أمان حالت دون إنهيار البنية الأساسية للجيش في ذروة الأزمة المالية التي أصابت الدولة اللبنانية.

ومع ذلك، فإنّ القيادة العسكرية تتعامل مع هذا الملف بعين الموازنة بين الحاجة والكرامة الوطنية. فهي تدرك أنّ الاعتماد المفرط على الخارج قد يُضعف مناعة أيّ مؤسسة، لذا تعمل على إدارة هذا الدعم ضمن إطار مؤسساتي شفاف يضمن أن تبقى المصلحة الوطنية هي المرجع الأول في أيّ تعاون. ويأتي ذلك من خلال تعزيز التواصل مع مختلف الجهات المانحة ضمن رؤية واضحة، تجعل الجيش شريكاً محترماً لا متلقياً للمساعدات.

ويستند هذا التوجّه إلى قناعة راسخة لدى الجيش بأنّ الاستقلال الفعلي للمؤسسة العسكرية لا يُقاس بقدرتها المادية فقط، بل بقدرتها على إتخاذ القرار وفق المصلحة اللبنانية، بعيداً من أيّ إصطفافات أو محاور إقليمية. فالشراكة مع الدول الداعمة هي وسيلة لتعزيز استقرار لبنان ومنع إنهياره، لا لإقحامه في لعبة المحاور أو تقييد إرادة جيشه.

في الداخل، تبقى المؤسسة العسكرية صمّام الأمان الوحيد في جمهورية تتنازعها المحاور. فهي تُدرك أنّ سقوطها يعني سقوط الدولة نفسها. ومع أنّها تُستدرج أحياناً إلى مربّع التسييس، إلا أنّها لا تزال متمسّكة بمبدأ الحياد الإيجابي، رافضةً الدخول في أيّ صدام مع المكوّنات اللبنانية.

يحاول الجيش أن يكون حارس الاستقرار لا لاعب السلطة، ودرع الوطن لا أداة بيد أحد. لكنّ هذا الدور لا يمكن أن يستمرّ من دون دعم سياسي واضح وإجماع وطني صادق يوفّر له الغطاء لمواجهة الأخطار التي تتجاوز قدرته وحده على معالجتها.

فبين الجنوب والحدود الشرقية، وبين السلاح الخارج عن شرعية الدولة والمتفلت وكارتلات المخدرات والإرهاب، يخوض الجيش حرباً متعددة الوجوه والجبهات في دولة تكاد تفقد ملامحها. ومع ذلك، يظلّ المؤسسة الوحيدة التي تحافظ على تماسكها، وتستمدّ شرعيتها من التزامها الدائم بمبدأ: لا مواجهة مع اللبنانيين، ولا تهاون مع الخارجين على الدولة.

إذ في هذا الظرف التاريخي الصعب، يبدو الجيش اللبناني كآخر الخيوط التي تربط لبنان بفكرة الدولة. لكنّ السؤال يظلّ مفتوحاً: هل تمنحه السلطة السياسية ما يحتاجه ليحمي الوطن؟ أم تتركه وحيداً على خطّ النار، يحرس جمهورية لا تعرف من هو صاحب القرار فيها؟